23 أبريل 2012

البرادعى وعمر مكرم بين المماليك ومشايخ السلطان

8 أبريل 2012 
محمد صلاح الشيخ
«كان ظلاًّ ظليلاً عليهم وعلى أهل البلد، يدافع عنهم ولم يزالوا بعده فى انحطاط».
كانت هذه هى كلمات المؤرخ عبد الرحمن الجبرتى عن الزعيم والشيخ الوطنى عمر مكرم الذى ربما كان أول زعامة مصرية يشترك دورها السياسى مع دورها الدينى وبصورة فاقت دور الإمام العز بن عبد السلام قبل ما يزيد على ذلك بخمسمئة عام. قاد الرجل المصريين لمقاومة المحتل الفرنسى بعد اندحار المماليك وهروبهم وفشلهم فى مهمتهم الأساسية للدفاع عن الأمة، حيث بدأ ضمور قدرتهم فى ذلك أمام مهامهم التى أدمنوها فى سرقة المصريين والاستبداد بهم.
كانت تلك أول مرة منذ العصور الفرعونية يتولى فيها المصريون تدبير أمورهم بأنفسهم فى مواجهة خطر داهم يهدد وجودهم، وكانت سابقة أعمال الرجل فى مواجهة ظلم المماليك خير معين له فى أداء تلك المهمة التى لم يملك أحد غيره من المشايخ وكبار القوم مخاطرة القيام بها.
وبعد أداء عظيم فى مواجهة الاحتلال الفرنسى والتغلب على مخططاته وإغراءاته استطاع المصريون قهر احتلال قادم من عالم آخر أيقظ المصريين على حقيقة وضعهم المأساوى بعيدا عن التاريخ. وكان طبيعيا أن تشتد الحاجة إلى دور الرجل فى تأسيس وضع ما بعد الاحتلال، خصوصا فى ظل الفارق الكبير الذى اكتشفه المصريون بينهم وبين العالم.
لكن أشاوس عصابات المماليك خرجت من مخابئها مرة أخرى محاولة إعادة وضع ما قبل الاحتلال، ورأينا حالة تنازع بشع بينهم وبين الإرادة الشعبية التى ترسخت عبر سنوات الاحتلال الثلاث للدرجة التى تعاقب فيها على مصر خمسة ولاة منهم فى أقل من عامين بعد الاحتلال، واستقر الأمر نسبيا لخورشيد باشا الذى لم يسعه فى النهاية إلا الاستمرار على نفس النهج، وهنا كان التجلى الأكبر للإرادة الشعبية بمحاصرته وإنزاله من القلعة وتعيين محمد على واليا تعيينا مشروطا بإقامة العدل والرجوع إلى العلماء والمشايخ وكبار القوم، وإلا فسيتم عزله وإنزاله كما سبق وحدث مع سلفه.
كان من الممكن أن تكون تلك هى اللحظة الفارقة فى تاريخ هذه الأمة للتقدم نحو دولة العدل التى غابت عن المسلمين بنهاية الخلافة الراشدة التى انكسرت أمام عودة القبلية الجاهلية التى جعلت الحكم بالسيف والدماء لمن غلب، إلا أن علماء السلطان سقطوا ثانية، وهم الذين ارتعشوا وقت أن كانت شجاعتهم بر أمان تَطلَّع إليه المصريون ولم يجدوه إلا عند عمر مكرم ونفر قليل مثله.
كان حقدهم على مكانة عمر مكرم المستحقة لدى المصريين انعكاسا لنفوس صغيرة خانعة للاستبداد وقابلة للإغواء الذى كان على حساب الأمة بطبيعة الحال، وكانت تلك ضالة المملوك الألبانى الجديد للتخلص من قيود الإرادة الشعبية التى وضعته على كرسى الولاية، وبفضل علماء السلطان تمكن محمد على من تدمير إرادة المصريين وابتعد أملهم فى العدل، لكن أحدا من أبناء ذلك الزمان لم يكن يتصور أن يظل هذا الأمل بعيد المنال من ساعتها حتى الآن وبما يزيد على مئتَى عام.
ومن هنا لا بد من أن نقدر خطورة الممارسات السياسية المملوكية التى تمت منذ سقوط مبارك، وأخطرها تفتيت الالتفاف حول زعامة وطنية صادقة لعبت الدور الأهم فى إحداث التغيير فى مصر.
ففى نهايات 2008 كانت الحركات الاحتجاجية التى بدأت قوية فى عام 2004 قد بدأت فى الانحسار والتشتت وتكسرت انتفاضة القضاة وفقد الجيل الجديد من الشباب بوصلة تغيير النظام وصمتت أو أُخرِسَت شخصيات عملت فى نظام مبارك وكان معقودا عليها بعض أمل، أما المعارضة الحزبية فلم تكن إلا أشلاء نضال تم تدجينه وزرع العملاء داخله، وأصبحت الساحة مهيأة لإتمام مشروع التوريث وإدخال مصر فى نفق لا يعلم أحد نهايته ولا تكلفة الخروج منه، لكن استجابة محمد البرادعى للنداءات التى دعته للقيام بالمهمة الوطنية الكبرى لإنقاذ هذا الوطن من ذلك المصير المظلم قلبت الأوضاع رأسا على عقب، وأفسدت خطط التوريث الجهنمية، ومن هنا كانت زعامته، خصوصا فى العام الأخير قبل الثورة وبعد عودته من الخارج، لتبدا أولى خطوات بناء هذه الزعامة باستقبال مهيب غيّر قواعد لعبة مماليك التوريث، لكنهم لم يكونوا إلا فرقة واحدة هددت عرش فرقة المماليك الأخرى التى استبدت بهذا الشعب طوال العقود الماضية لتبدأ بعد الثورة فى إثارة الفُرقة والأطماع بين القوى التى صنعت التغيير تماما كما فعل محمد على للالتفاف على زعامة عمر مكرم، وكما تم استخدام مطامع المشايخ الذين جحدوا دور عمر مكرم تم استخدام مشايخ السلطان أيضا للالتفاف على زعامة البرادعى الذى قَبِل المهمة الصعبة فى وقت اختبأ فيه كل الجاحدين لزعامته من أشاوس ما بعد مبارك، غير مدركين أن تأييد هذه الزعامة هو وحده الكفيل بحمايتهم من بطش المماليك التى ما زالت تدير مصر «حتى مع تغير نوع المماليك»، والتى لن تسمح لهم بتحقيق هدفهم النهائى فى ظل موازين القوى الحالية وإن المسموح به فقط هو تحقيق بعض أهدافهم المرحلية، وسيلقون فى النهاية مصير علماء السلطان على يد محمد على الذى أذلهم بعد أن أفقدهم أطماعهم التى من أجلها باعوا زعامة كانت حصنا لهم.
ورغم أن هذا السيناريو تَكرّر أكثر من مرة بعد ذلك، كما فى فرمان خليفة المسلمين بعصيان عرابى واستخدام على ماهر رجل الملك فؤاد ونصير هتلر وموسولينى لحماسة الشاب حسن البنا والإخوان لضرب التفاف الشعب حول زعامته الوطنية ممثلة فى الرجل التقى المتدين النحاس باشا، وهو ما كرره ثانية عبد الناصر بعد 1952 والسادات بعد 1971، فإن قصر النظر السياسى ما زال مرضا يستعصى على الشفاء.
لم يعد صعبا اليوم أن يفهم الجميع أن رعاية التطرف المسيحى والإسلامى كان محور إبقاء المماليك فى حكم هذا البلد الذى لا سبيل لأخذ مكانه المستحق إلا بالوعى والثقة التى تعالج حالة الإرعاب المزروعة فى نفوس المصريين سواء كان رعبا على الوطن أو على الدين، وإدراك أن كل ما يفرق الأمة ليس إلا قضايا غذتها مجموعة صغيرة من المماليك تريد الإبقاء على دولتها بعيدا عن إرادة الشعب.
أخشى أن نقول عن البرادعى بعد فوات الأوان ما قاله الجبرتى عن عمر مكرم ومشايخ السلطان الذين باعوه: «لقد كان ظلًّا ظليلًا عليهم وعلى أهل البلد يدافع عنهم، ولم يزالوا بعده فى انحطاط».
المصدر: جريدة التحرير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق