كتب

- الكتاب الابيض:


"الكتاب الأبيض" للتعريف بانجازات البرادعي وتصحيح صورة البرادعي التي شوهها النظام البائد

تحميل الكتاب الابيض (من انتاج الحملة الشعبية المستقلة لدعم البرادعي)
http://www.mediafire.com/?o33ihmjig3l

- البرادعى وحلم الثورة الخضراء:


 كتاب «البرادعي وحلم الثورة الخضراء» عبارة عن مقالات سبق لمؤلفه كمال غبريال، نشرها في وسائل إعلامية مختلفة، وتتضمن نقدا للحكومة وللشعب المصري وثقافته، وتتضمن أيضا محاذير من أن يتسبب التفاف بعض القوميين والإسلاميين حول حركة البرادعي، في إجهاض مسيرته. ولا يركز الكتاب، في مجموعه، على البرادعي كإنسان، ولكن يتناول المجتمع المصري الذي بدأ جانب منه يلتفت لحركة البرادعي ويتفاعل معها. وعلق غبريال، بقوله لـ«الشرق الأوسط»: «سمعت الخبر واندهشت له، لأن الكتاب عبارة عن تحليل علمي رصين للواقع المصري، وتطرقت فيه للحركات التي تنشد التغيير في مصر، مثل حركة البرادعي. وعرضت في الكتاب أن المطلوب هو إيجاد تغيير ثقافي، وحراك مجتمعي قبل التغيير السياسي أو المطالبة بتعديل القوانين أو تغيير الدستور».


 اعتقال ناشر كتاب «البرادعي وحلم الثورة الخضراء» من منزله بالقاهرة (ابريل 2010) "الشرق الاوسط"
http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&issueno=11450&article=563732

-  زمن الخداع:

عرض جريدة الشروق لكتاب الدكتور محمد البرادعى ( زمن الخداع ) عرض:دينا عزت - مايو 2011
الشروق تقدم عرضًا لكتاب زمن الخداع للبرادعى (1)

إلى مايا، حفيدته ذات الأعوام الثلاثة، يهدى محمد البرادعى، المرشح الرئاسى المصرى والحائز على جائزة نوبل للسلام، كتابه الذى يحكى فيه قصة 12 عاما أمضاها على رأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بحثا عن تقويض انتشار مدمر للسلاح النووى وتخفيض لترسانات نووية قائمة واستخدامات سلمية للطاقة النووية تسهم فى توليد الطاقة وعلاج السرطان ــ أى بحثا عن عالم أفضل يحلم البرادعى أن يسوده الأمن من الدمار والسعى للنماء، عالم يريد أن يتركه لهذه الحفيدة وحفيدات وأحفاد آخرين قد يكونوا له يوما، ولأجيال من الأطفال، من بينهم من يعنى به البرادعى بنفسه من خلال كفالة أيتام فى مناطق فقيرة فى القاهرة، وبينهم أطفال فى العراق وإيران وكوريا الشمالية وغيرها يرى البرادعى أنهم يستحقون عالما أفضل.
 كتاب البرادعى
نحن فى هذه الحلقات نعرض كتاب البرادعى الذى صدر قبل أيام، فى نسخته الأصلية باللغة الإنجليزية، وفى نسخته العربية التى أعدتها وتنشرها دار الشروق، وفى قرابة عشرين لغة أخرى يحمل عنوان «زمن الخداع ــ محمد البرادعى يروى تجربته فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية».
وفى 400 صفحة من القطع الكبير يستدعى البرادعى ذكريات الأعوام من 1997 حتى 2009 عندما شغل منصب مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ليبوح بما لم يقله من قبل عن علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية، خاصة إدارة الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش، وعن محادثاته مع قادة إيران، الإصلاحيين منهم والمتشددين، ولقاءاته مع قادة الدول المتقدمة والدول النامية.

يستدعى البرادعى الذاكرة، فتجود بتفاصيل دقيقة عن عشاء فى بغداد عشية حرب مدمرة وغير مبررة، بل غير قانونية، ومكتب فى طهران ليس به من الفخامة من شىء يدخله المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية لإيران ليتحدث عن حق بلاده فى تطوير التكنولوجيا النووية، ولقاء مع وزير الكهرباء والطاقة المصرى حسن يونس يفصح فيه البرادعى، بحياد مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية وقلب المواطن المصرين، خشية من غياب للرؤية فى حديث يبدو حماسيا أكثر مما يبدو واقعيا عن برنامج نووى مصرى، ولقاء مع أسطورة العناد العسكرى آرييل شارون الذى لا يأبه لشىء سوى لما يراه أمن إسرائيل، وغرفة بائسة وباردة فى بيونج يانج وخيمة القذافى الشهيرة ــ وقبل هذا وبعده مكتبه فى مقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية بفيينا حيث عقد اجتماعات لا نهائية بحثا عن تسويات سلمية لخلافات نووية، وأحيانا أيضا منزله الصيفى فى الإسكندرية، حيث كثيرا ما تخللت إجازته العائلية مكالمات هاتفية من هذا الرئيس أو ذاك، وهذا السفير وذاك، لمناقشات حول اتفاقات يسعى البرادعى لإبرامها لابعاد شبح المواجهة التى كثيرا ما تلح على منطقة الشرق الأوسط.

المرواغة

يتحدث البرادعى بلا تردد عن ضغوط تعرض لها هنا وهناك، مرواغات واجهته وإحباطات توالت عليه، وعلى لحظات انتصار الدبلوماسية على شبح الحرب ولحظات استمساك بعقيدة الأمن الانسانى وحق البشرية فى عالم أكثر آمنا ــ وبالتأكيد عن لحظة الحصول على جائزة نوبل للسلام مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية عام 2005.

فى كتابه «زمن الخداع» يرفع البرادعى الستار للقارئ عن كواليس السياسة الدولية فى أشد لحظات التعقيد وأوضح لحظات التآمر، فيسرد بصورة واثقة، لا تخلو من طرافة الحكى، ولكن دوما بدقة التعبير عن سنوات تنقل فيها بين العراق وإيران وليبيا وكوريا الشمالية وغيرها.

أروقة صناعة السياسة الدولية

وكما تشير دار الشروق فى مقدمة الناشر التى تصدر بها النسخة العربية من «زمن الخداع» فإن البرادعى يتيح لقارئ هذا الكتاب «التعرف على الآلية المعقدة التى تعمل بها هذه الوكالة والصلاحيات المتاحة لها والمحددات التى تحول دون تمكنها من تفقد الترسانة النووية لدولة مثل إسرائيل».
قارئ «زمن الخداع»، كما تضيف مقدمة الناشر، يتسنى له أيضا أن «يدخل أروقة صناعة السياسة الدولية ما بين فيينا ونيويورك حيث مقر الأمم المتحدة وواشنطن عاصمة السياسة العالمية ليتعرف على خفايا ملفات تصدرت صفحات الجرائد وأثرت فى حياة الملايين سواء فى العراق أو إيران أو كوريا الشمالية».

العشاء الأخير فى بغداد

«كانت ليلة التاسع من فبراير آخر أمسية تقضيها فرق التفتيش الدولية عن أسلحة الدمار الشامل فى العراق. كانت تلك هى الليلة التى تناولت فيها عشاء كان الاخير فى بغداد قبل أن تشن الولايات المتحدة الامريكية الحرب على العراق»، بهذه الكلمات يفتتح البرادعى مقدمة كتابه «زمن الخداع» ليبدأ فى الحكى عن مائدة العشاء العامرة التى حضر إليها فى أحد أرقى مطاعم العاصمة العربية، بدعوة من ناجى صبرى وزير خارجية العراق ومجموعة من كبار الخبراء أعضاء فرق التفتيش ومجموعة من المسئولين العراقيين لحديث يوجز المعضلة المزمنة التى واجهت البرادعى فى كل مرة كان عليه فيها، بوصفه مديرا عاما للوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن يحسم أمر امتلاك أو عدم امتلاك أى دولة للسلاح النووى أو أسبابه: التباين بين ما يقول به مسئولو هذه الدولة وبين ما يمكن لهم إثباته من خلال وثائق ووقائع ومواقع.

ليلة العشاء الأخير فى بغداد، كما يتذكر البرادعى، جلس وهانز بليكس، المكلف بالكشف عن الأسلحة الكيميائية والبيولوجية التى ادعى الغرب باستمرار حيازة العراق لها، ليتحدثا إلى المسئولين العراقيين بالقول «إنكم تصرون على ان العراق ليس لديه أسلحة دمار شامل وتقولون لنا انكم لم تقوموا بإحياء أى من برامجكم السابقة لأسلحة الدمار الشامل التى تم تدميرها بالفعل ولكننا لا نستطيع اعتبار الأمر منتهيا قبل ان يكون لدينا ما يثبت ما تقولون».

وعبر صفحات «زمن الخداع» تأتى هذه الكلمات مرات ومرات، بعبارات مختلفة وفى مدن مختلفة حول العالم، ولكنها دوما كلمات السعى عن اثبات سلامة مواقف الدول التى يتهمها المجتمع الدولى بالسعى نحو امتلاك السلاح النووى، أو تلك التى يريد التيقن من خلوها من هذه الأسلحة.
«كان حسام أمين، المسئول العراقى المكلف بالتعامل مع الامم المتحدة، معنا فى ذلك العشاء الاخير، وبينما كنت انا وبليكس نتحدث عن ضرورة أن يقدم العراق الدليل الحاسم على خلو أراضيه من أسلحة الدمار الشامل، انحنى أمين للأمام قليلا ووجه حديثه ونظراته لى ولبليكس قائلا «دعونا نتحدث بصراحة، نحن لا نستطيع أن نقدم لكم أكثر مما قدمناه لأنه ليس لدينا أكثر مما قدمناه بالفعل»، حسبما يقول البرادعى فى مقدمة كتابه «زمن الخداع».

الحرب واقعة لا محالة

ويضيف البرادعى نقلا عن أمين، بسرد ينطق بالأسى، «ثانيا دعونا نقرر هنا إنه ليس بوسعكما ان تقوما بأى شىء يخدمنا لأن هذه الحرب واقعة لا محالة وليس هناك شىء يمكن لكما أو لغيركما ان يقوم به لمنعها، فالحرب مقررة لا محالة».

فى المقدمة ذاتها يتذكر البرادعى انه لم يتفق مع أمين فيما قال، ولكن وبعد صفحات قليلة، يعود ليروى كيف بدأت نذر الحرب تتداعى وكيف بدأت الحرب.
«وفى ساعة مبكرة من صباح السابع عشر من مارس 2003 تلقيت مكالمة من بعثة الولايات المتحدة الأمريكية بفيينا، حيث مقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تدعونى للتحرك نحو إنهاء مهمة المفتشيين الدوليين فى بغداد. كان غزو العراق على وشك أن يبدأ»، يروى البرادعى.

الحرب التى قادتها الولايات المتحدة الامريكية، والتى يصر البرادعى انها «حطمت حياة الملايين»، والتى رآها بعض المسئولين العراقيين قادمة لا محالة، اثبتت بعد سنوات، حسبما يشرح البرادعى فى الفصل الأول من كتابه، ما كان البرادعى يود لو انه استطاع ان يثبته بصورة جازمة من ان العراق لا يمتلك من الاسلحة النووية شئيا، بل إنه ليس لديه ما يمكن ان يقيم به برنامجا للتسلح النووى ــ وذلك بالرغم من كل الدعاية الامريكية المضادة.

منشآت العراق النووية

حديث البرادعى فى فصله الأول «العراق ــ الجولة الأولى ما بعد المعركة»، يروى قصة الوصول إلى العشاء الأخير، فيتحدث عن الكثير من تفاصيل علاقة الوكالة الدولية للطاقة الذرية والعراق فى مرحلة ما بعد انهاء احتلال العراق للكويت بحرب دولية قادتها الولايات المتحدة الأمريكية، تلك المرة بموافقة من مجلس الامن الدولى حيث لم يكن «لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية معلومات حول برنامجها النووى فى ذلك الحين سوى ما تم الكشف عنه لمركز ابحاث نووية فى (التويثة) الواقعة على بعد بضعة كيلو مترات جنوب شرق بغداد».

وفى أعقاب الحرب مباشرة، كما يضيف البرادعى، «تمكن المفتشون التابعون للوكالة الدولية للطاقة الذرية من الحصول على دلائل على وجود نشاطات نووية أخرى، خارج نطاق مفاعلى التويثة. ولم يكن العراق قد أخطر الوكالة بهذه النشاطات. وتعرضت الوكالة للوم لعدم معرفتها بهذه النشاطات من قبل رغم أن مهمتها فى العراق لم تكن تشمل أى شىء سوى التحقق من أن المنشآت النووية العاملة تستخدم بالكامل للأغراض السلمية».

الحديث عن اللوم الذى تتعرض له الوكالة من قبل عواصم العالم لاسباب كثيرا ما تتعلق بأجندات سياسية لدولة أو دول بعينها، أكثر من كونها متعلقة بأجندة مجابهة انتشار الأسلحة النووية، هو أمر كثيرا ما يتوقف أمامه البرادعى الذى يبدو لقارئ «زمن الخداع» أنه كثيرا ما شعر بعدم الانصاف جراء ما تعرضت له الوكالة من نقد لا يرتبط بمدى التزامها بتنفيذ التكليفات الدولية المنوطة بها قدر ما يرتبط بالدوافع السياسية لهذه الدولة او تلك.

فى حال العراق، كما يضيف البرادعى فى الفصل الأول، فإن اللوم، فى رأيه، لم يكن مستحقا «لأنه إلى جانب محدودية الصلاحيات المخولة للوكالة فلم يكن هناك فى ذلك الوقت معلومات مخابراتية ذات بال على الإطلاق حول البرنامج النووى السرى للعراق».

سياقات نووية

ثم يذهب البرادعى بعيدا قليلا عن الحكى ليشرح لقارئ زمن الخداع ما لا يعلمه فى الأرجح حول تعبيرات شديدة التعقيد كثيرا ما يقرأها وهو يتابع ما تنشره الصحف حول العراق وإيران وكوريا الشمالية من حديث عن «دورة الوقود النووى» و«اليورانيوم» و«التخصيب» و«اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية»، ليؤكد أنه «لا يوجد فى المواد الخاصة بنزع التسلح فى هذه الاتفاقية ما يمنح الوكالة صلاحيات أو آلية واضحة ومحددة للتأكد من التزام الدول بتحقيق التقدم المتوقع فى مجال المفاوضات من أجل نزع التسلح، كما أنها لا تكلف جهازا أو هيئة ما بالاشراف على حدوث هذه المفاوضات والتأكد من انها تحقق التقدم المطلوب، بل انها لا تقرر أية عقوبة على الدول التى لا تلتزم بما هو مقرر فى الاتفاقية حال عدم سعيها للدخول فى مفاوضات جادة بغرض الوصول إلى مرحلة عدم التسلح»، وبالتالى فلا مبرر للعتب على الوكالة الدولية للطاقة الذرية فيما يتعلق بما تكشف فى العراق فى أعقاب حرب الخليج التى وقعت فى عام 1991.

أمريكا والعراق

وبعد هذا الاستطراد يعود البرادعى لتوالى فصول القصة العراقية عشية حرب 2003 التى شنتها الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وبعض من الحلفاء لهما دون تفويض من مجلس الأمن ليقول «لقد أشارت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الطموحات النووية الناشئة لدى بغداد كأحد اسباب القيام بعمل عسكرى ضد العراق، فى حين انه لم يكن هناك الكثير من المعلومات عن حقيقة القدرات النووية للعراق قبل هذه الحرب. وإن كان لدى بعض قطاعات الاستخبارات الامريكية افتراض بأن العراق لديه طموحات لتصنيع السلاح النووى ــ وذلك بناء على جملة من الدلائل من بينها محاولة العراق الحصول على المكونات اللازمة لاجراء عملية التخصيب النووى وغيرها من القدرات التكنولوجية النووية وذلك من خلال عدد من الدول الأوروبية. غير أن الوكالة الدولية للطاقة النووية لم تتلق أية إفادة بهذه المعلومات».

ويضيف البرادعى أنه «فى الشهرين السابقين على الحرب قامت العديد من وسائل الإعلام بنشر واسع لتقارير غير موثقة حول قدرات نووية بعينها قالت ان العراق يمتلكها» دون ان تتمكن الوكالة من اثبات صحة هذه الادعاءات، بل انها فى بعض الاحيان وكما يطالع قارئ «زمن الخداع» قامت بدحض هذه الادعاءات.

التفتيش فى العراق

فى فصله الأول «العراق ــ الجولة الأولى ما بعد المعركة» يذهب البرادعى مع قارئه لأولى جولات التفتيش على أسلحة العراق فيما بعد حرب الخليج الأولى والتى تمت بمقتضى قرار مجلس الامن 687 والتى تولتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية ــ فى وقت لم يكن البرادعى فيه قد ترأس الوكالة الدولية بعد ــ والآونسكوم التى كان تكليفها متعلقا بالتفتيش عن الأسلحة الكيمائية والبيولوجية.
«وفى 14 مايو 1991 وصل إلى بغداد أول فرق التفتيش التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية تحت رئاسة كبير المفتشين دميتروس بيراكوس، الذى توجه مباشرة إلى موقع التويثة. وكانت الصورة المأخوذة من الجو قد مهدت للفريق أنه سيكون بصدد مكان تعرض لتدمير كبير جراء حرب الخليج، وبالفعل فلقد كانت كل مبانى التويثة قد تعرضت للقذف بالقنابل اثناء الحرب»، يروى البرادعى، مشيرا إلى ان «المهمة الأولى الموكلة للفريق هى وضع يديه على اليورانيوم عالى التخصيب المخصص للاستخدام فى المفاعلين المقامين فى التويثة».

وبحسب شهادة البرادعى فإن «الفريق العراقى المكلف بالتعامل مع فريق التفتيش الدولى أبدى رغبة حقيقية فى التعاون». ويضيف إن «أعضاء الفريق اكتشفوا، ولدهشتهم، أن الوقود المشع قد اختفى تحت وطأة القصف الشديد خلال الحرب ــ أو هكذا قال الفريق العراقى. ولتفادى تدمير الوقود وتشتته، قال العراقيون، إنه تم بناء حفر أسمنتية على عجالة لينقل إليها هذا الوقود ــ وكان المكان المختار لهذه الحفر بالقرب من حى جرف النداف فى أراض زراعية لا يوجد بها ما يميزها على وجه الخصوص».

«وبمعاونة الفريق العراقى»، حسبما يتحدث البرادعى، «تمكن فريق التفتيش الدولى من إيجاد الأماكن التى تم فيها تخزين الوقود المشع وغير ذلك من المواد النووية ذات الصلة لتبدأ عملية التحقق بناء على المعلومات المتاحة للوكالة الدولية من قبل العراق قبل نشوب الحرب».

ويستفيض البرادعى فى توصيف ما قام به المفتشون فى العراق والعقوبات التى واجهوها وأيضا المشكلات التى تسبب فيها مفتشو الآونسكوم ــ دون أن يخلو الأمر من مقارنة بين مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومفتشو الآونسكوم ــ وإلى اتهامات تم توجيهها لبعض المفتشين بالتعامل مع بعض أجهزة المخابرات بعيدا عن سياق التزاماتهم.

ويتذكر البرادعى أحد مشاهد زيارات المفتشين لأحد المواقع فى وسط الصحراء، حيث كان العراقيون يطلعونهم على جهاز لفصل النظائر تم تدميره وتخبئته بحيث لا يمكن العثور عليه.

«وكان الجو شديد الحرارة، كما هو الحال بالنسبة لأيام الصيف فى العراق، وكان واضحا أن المفتشين المكلفين بقياس وكتابة تقارير عن تلك الكتل الضخمة من المعدن بصدد مهمة شديدة القسوة بالنسبة لتأثير الحرارة المرتفعة جدا. وبصورة مفاجئة قرر ديفيد كاى ــ الموظف السابق فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية كان فى درجة وظيفية متوسطة وكان من أعضاء فريق المعاونة الفنية لم يكن لديه خبرة تذكر فى عمليات التفتيش ــ ان يتم استجواب احد العلماء العراقيين رفيعى المستوى مباشرة وفى الموقع. ورفع كاى ذراعه بصورة مسرحية قائلا «فليبدأ الاستجواب» وهو الأمر الذى تسبب فى إحراجى وإحراج بليكس».

كما يتحدث البرادعى عن التبعات التى وقعت عليه شخصيا وحملة التشهير التى تم توجيهها إليه جراء محاولته التأكيد علنا على أهمية حسن العلاقة بين المفتشين وبين المسئولين فى الدولة الواقعة تحت التفتيش وعدم إهانة هؤلاء واحترام ثقافتهم.

ثم يروى البرادعى تفاصيل لبعض ما كان من الخلافات الدائرة بين المفتشين والمسئولين العراقيين، ويقول «العراقيون كان يصرون على انكار وجود برنامج سرى للتخصيب، وبالتالى كان من المهم تعقب الاجهزة المستخدمة بوصفها الدليل على حدوث عمليات تخصيب غير معلنة. وبالتالى فمنذ البداية تحولت الجولة الثانية للتفتيش لعملية مطاردة، حيث قال العراقيون إن المكان الأصلى الذى تم فيه اكتشاف الاسطوانات المعدنية، المفترض أنها كانت تستخدم فى إطار عملية التخصيب، هو مكان عسكرى لا يسمح لمفتشى الوكالة بالدخول إليه عند وصولهم، حسب الاتفاق المسبق، وهو ما اضطر الوكالة إلى التخاطب مع قيادات عراقية أرفع وبالتالى بعد ثلاثة أيام تم السماح للمفتشين بدخول الموقع ليكتشفوا ان المعدات قد اختفت».

ويشرح البرادعى أن عمليات التفتيش فى العراق كانت تتم على ثلاث مسارات متوازية. الأول، بحسب حديث البرادعى، كان يهدف لتوضيح المعلومات المتاحة حول برنامج التسلح النووى العراقى، والثانى كان التمهيد لإخلاء العراق من اليورانيوم شديد التخصيب والثالث فقد تركز على تفكيك معددات التخصيب.

ويقول إنه «بعد قرابة عام من العمل على الارض فى العراق كان يمكن القول ان ما جاء به القرار 697 كان قيد التنفيذ بصورة جيدة».

إسرائيل والعراق

وفى معرض حديثه عن البرنامج النووى العراقى يتذكر البرادعى أمرا يعود لمطلع الثمانينيات عندما وجهت إسرائيل ضربة عسكرية لمفاعل عراقى نووى فى ذلك الوقت ــ دون أن يكون لتلك الضربة تبعات تذكر بالنسبة لإسرائيل. ويقول «ولم يتبع قيام مجلس الأمن بإدانة التصرف الإسرائيلى بوصفه خرقا للقانون الدولى بأية تبعات من أى نوع. بل إن اسرائيل تكاد تكون قد تجاهلت مطلب مجلس الأمن بتقديم التعويض للعراق وبأن تقوم بوضع منشآتها النووية تحت مظلة الضمانات للوكالة الدولية للطاقة الذرية». وبالتالى، كما يضيف البرادعى فى الفصل الأول من كتابه «زمن الخداع» كان قرار صدام حسين بأن «يتعامل مع هذه المشكلة بنفسه ــ وكانت النتائج ما رأيناه بعد ذلك» من محاولة سرية لتطوير برنامج لأسلحة الدمار الشامل كشفت عنه حرب الخليج التى وقعت فى 1991.

ويقر البرادعى بلغة تجمع بين الأسف والتفهم بأن التباين فى التعامل الدولى مع مجرد ادعاء بامتلاك العراق للسلاح النووى وصمت المجتمع الدولى عن سياسة الغموض النووى التى تتبعها إسرائيل هو أمر يلقى الرأى العام العربى بلائمته على الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ويقول مع نهاية الفصل الأول من كتابه «وعندما بدأت بزيارة الدول العربية بوصفى مدير عام الوكالة كنت كثيرا ما أستمع لانتقادات موجهة للوكالة لعجزها عن «القيام بشىء ما» إزاء برنامج إسرائيل النووى». ويضيف أنه كثيرا ما كرر لمحدثيه فى العالم العربى أن الوكالة ليس لها الحق فى تفتيش منشآت إسرائيل النووية لأن إسرائيل وإن كانت عضوا فى الوكالة فهى لم تقم بالانضمام إلى اتفاقية حظر انتشار الأسلحة كما انها ليست ملتزمة بمظلة الضمانات التى تقررها الوكالة، ومع ذلك يقر بأن «هذا الحديث لم يكن ليريح الرأى العام الناقم فى العالم العربى والذى كان يصر على أن الوكالة منحازة لصالح إسرائيل ولا تقوم بمهماتها على الوجه الأكمل».

مصر والعرب والعراق

ولكن ما قد يثير أسى القارئ العربى هو ما يطالعه من تفاصيل وتقييم موقف يطرحه البرادعى حول موقف القاهرة والدول العربية إجمالا فى التعاطى مع تطورات الحرب على العراق، حيث يذكر «زمن الخداع» القارئ بقمة شرم الشيخ التى استضافتها مصر قبيل شن الحرب الأمريكية على العراق وعجز الدول العربية، أو ربما عدم رغبتهم فى ذلك ــ كما يلمح البرادعى ــ اتخاذ المبادرات أو المواقف السياسية التى تتيح درء الحرب ولو من خلال تبنى مبادرة الإمارات العربية الداعية لتنحى صدام حسين ومنحه اللجوء فى الإمارات ذاتها لإعفاء شعب العراق من مصير أليم بدا مقتربا فى الأفق.

ويقول البرادعى «وفى بداية عمليات التفتيش التقيت الرئيس المصرى حسنى مبارك الذى كان باديا أنه يبغض صدام حسين بصورة شخصية، حيث أخبرنى بأن الرئيس العراقى خدعه أثناء حرب الخليج الاولى بعد أن قام بغزو الكويت بالرغم من التعهد الذى أبداه للرئيس المصرى بعد القيام بذلك».

ثم يضيف إنه فى حديث لاحق، حول العراق، طالب البرادعى من مبارك التدخل لدى صدام لتسهيل عمليات التفتيش لإبعاد شبح المواجهة عن العراق، «وأخبرنى مبارك بأنه تلقى رسالة من صدام حسين فى هذا الصدد وأنه ليست هناك مدعاة للقلق وأن كل شىء سيكون على ما يرام، وفى ذات الحديث أخبرنى مبارك بأن «صدام حسين لديه أسلحة بيولوجية وأنه يقوم بإخفائها فى المقابر» وكانت تلك أول وآخر مرة أسمع فيها هذه الشائعة» التى لم تعد إلا بعد سنوات من الحرب عن العراق عندما ذكرها الرئيس الأمريكى السابق بوش فى مذكراته عن تلك الحرب.

----

الشروق تقدم عرضًا لكتاب زمن الخداع للبرادعى (2)
 إلى مايا، حفيدته ذات الأعوام الثلاثة، يهدى محمد البرادعى، المرشح الرئاسى المصرى والحائز على جائزة نوبل للسلام، كتابه الذى يحكى فيه قصة 12 عاما أمضاها على رأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بحثا عن تقويض انتشار مدمر للسلاح النووى وتخفيض لترسانات نووية قائمة واستخدامات سلمية للطاقة النووية تسهم فى توليد الطاقة وعلاج السرطان ــ أى بحثا عن عالم أفضل يحلم البرادعى أن يسوده الأمن من الدمار والسعى للنماء، عالم يريد أن يتركه لهذه الحفيدة وحفيدات وأحفاد آخرين قد يكونوا له يوما، ولأجيال من الأطفال، من بينهم من يعنى به البرادعى بنفسه من خلال كفالة أيتام فى مناطق فقيرة فى القاهرة، وبينهم أطفال فى العراق وإيران وكوريا الشمالية وغيرها يرى البرادعى أنهم يستحقون عالما أفضل.


بينما كان العالم غارقا فى متابعة فصول قصة المفتشيين الدوليين عن السلاح فى العراق، طفت على السطح فصول قصة نووية أخرى، وفى آسيا أيضا، هذه المرة فى كوريا الشمالية.

يقول البرادعى، فى مطلع الفصل الثانى من كتابه والذى يخصصه بالكامل لملف كوريا الشمالية: «كان عام 2002 يقترب من نهايته، وكانت فرق التفتيش الدولية قد أخذت تحقق تقدما مهما فى عملها فى العراق، عندما وجد العالم نفسه فى مواجهة ملف نووى جديد لكوريا الشمالية». ويضيف: «منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا تبقى كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية، اللاعب المقابل على الساحة الدولية فى الملف الكورى، فى مواجهات لا تنتهي. أحيانا تقترب هذه المواجهة من حافة الهاوية، وأحيانا أخرى تبتعد عنها ليعود الصراع عند الحافة مرة ثانية وهكذا».

وفى روايته لبعض من فصول المواجهة بين واشنطن وبيونج يانج يقول البرادعى: «كانت هناك محاولة للتوصل إلى حل لهذا الملف بأن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم مفاعلين نوويين يعتمد تشغيلهما على المياه الخفيفة مقابل أن تقوم بيونج يانج بتجميد المشروع النووى الكورى. غير أن شعورا بالاستياء كان يسود فى كوريا الشمالية بسبب تأخر واشنطن فى الوفاء بتسليم هذين المفاعلين»، مضيفا أنه فى الوقت نفسه كانت «واشنطن مستاءة بسبب عدم قيام بيونج يانج بالكشف عن المزيد من النشاطات النووية التى كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتشكك فى وجودها فى كوريا الشمالية».

حديث البرادعى عن فصول المواجهة الدبلوماسية بين واشنطن وبيونج يانج، يطرح عقدة موقف الوكالة الدولية للطاقة الذرية والتى، كما يقول صاحب كتاب «زمن الخداع»، وقفت بين الجانبين «تحاول قدر استطاعة مفتشيها التأكد من تجميد نشاط المنشآت النووية الكورية الشمالية، لكن دون أن يكون لدى الوكالة ومفتشيها القدرة من التحقق من أن المنشآت الجارى تجميد نشاطها هى كل ما لدى كوريا الشمالية من منشآت نووية».

بوش غير راغب فى الحوار

فى الفصل الثانى «كوريا الشمالية.. عضو جديد فى النادى النووى»، يتحدث البرادعى، مرات بالتلميح ومرات بالتصريح، عن التأثير السلبى لسياسات جورج بوش على التعامل مع ملف البرنامج النووى لكوريا الشمالية، ويقول إنه قبيل نهاية رئاسة الرئيس الأمريكى بيل كلينتون لاحت فى الأفق إمكانية للتوصل إلى حل تفاوضى بين واشنطن وبيونج يانج غير أن الوقت لم يسمح، وجاءت الانتخابات الرئاسية الأمريكية بجورج دبليو بوش الذى أعلن «لدى استقباله زعيم كوريا الجنوبية، عقب حصول الأخير على جائزة نوبل للسلام عن اتباعه سياسة الشمس المشرقة للحوار والتقارب مع كوريا الشمالية ــ أن واشنطن غير راغبة فى الحوار مع كوريا الشمالية. وبعد شهور قليلة كان بوش الابن قد وضع كوريا الشمالية مع العراق وإيران فيما وصفه بمحور الشر، بل انه وصف زعيم كوريا الشمالية بالطفل الفاسد».

وبعد فترة قصيرة، كما يشير البرادعى، تفتحت آفاق لتحسن الاجواء بين الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الشمالية من خلال مبادرات دولة جارة لكوريا الشمالية وحليفة للولايات المتحدة الأمريكية وهى اليابان، فى إشارة، لا يمل البرادعى تكرارها حول أهمية وتأثير دول الجوار للتعامل مع الملفات النووية، بل والصفة الحاسمة التى يمكن أن تكون لهذا الدور والأثر السلبى الذى يمكن أن ينجم عن غيابه. ولكن الأمور فى التعامل مع الملفات النووية لا تسير على نمط واحد.

وبالفعل، يقول البرادعى، إنه بينما كانت آفاق التحسن بادية «حدث تحول مفاجئ جراء معلومات أدلى بها مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشئون الشرق الادنى جيم كيلى فى تقرير أعده لواشنطن بناء على لقاءات أجراها مع كبار المسئولين فى كوريا الشمالية. وحتى يومنا هذا فلم يتكشف الكثير مما جاء فى هذه اللقاءات، ولكن يبدو أن كيلى قد وجه خلالها اتهاما لكوريا الشمالية بإدارة برنامج سرى لتخصيب اليورانيوم».

وعقب ذلك، يضيف البرادعى، طالبت الولايات المتحدة الأمريكية بعملية تفتيش فى هذا البرنامج، وهو الأمر الذى تسرب للصحافة مصحوبا باتهامات لكوريا الشمالية بخرق التفاهم القائم بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية لايقاف برنامجها النووى مقابل حصولها على مفاعلين نوويين يعملان بالمياه الخفيفة للأغراض النووية السلمية.

والتفتيش هو دوما لحظة الحسم فى دراما الملفات النووية، كما يمكن لقارئ «زمن الخداع» ملاحظته، كما أن لحظة الاعلان عن التفتيش كثيرا ما تأتى مصحوبة بكثير من التعقيدات والتطورات المتصاعدة ــ وكذلك كان الحال بالنسبة لملف كوريا الشمالية حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية قررت وقف شحنات وقود نووى كانت مقررة لكوريا الشمالية والتى قررت بدورها وقف التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية بل و«هددت بطرد مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية واستئناف نشاط نووى متقدم وصولا إلى الانسحاب من الاتفاقية الدولية لحظر انتشار الاسلحة النووية» بعد اعلانها استئناف نشاطات نووية كانت قد علقتها مع بدء التواصل مع الولايات المتحدة الأمريكية بحثا عن حل مرضى للجانبين.

من كوريا الشمالية إلى سريلانكا

«ولم يكن الأمر مجرد تهديد بل شرعت بالفعل كوريا الشمالية فى مطالبة متفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بوقف نشاطهم فى موقع يونج بيون. وقد أجرينا اتصالات عديدة مع المسئولين فى كوريا الشمالية لمحاولة إقناعهم بمراجعة موقفهم. لقد كان ذلك فى عطلة اعياد الميلاد وكنت أتابع الأمر من فندق كنت أمضى فيه العطلة السنوية فيه مع عائلتى فى سريلانكا.. فى الوقت نفسه فقد كنت على اتصال دائم بأعضاء مجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى فيينا».

وطغت تطورات بيونج يانج على عطلة أسرة البرادعى، الذى انتهى الامر به متواصلا فى أحاديث هاتفية وتصريحات صحفية بل وفى إصدار بيان لإدانة الموقف الذى اتخذته كوريا الشمالية، حيث اعتبر «الخطوات التى اتبعتها كوريا الشمالية، مدعاة للقلق من انتشار التسلح النووى بل إننى ذهبت لأبعد من ذلك واتهمت كوريا الشمالية باتباع سياسة حافة الهاوية فيما يتعلق بالانتشار النووى».

انسحاب كوريا الشمالية من اتفاقية حظر الانتشار

وتتوالى الضغوط الدبلوماسية والاتصالات مع كوريا الشمالية لإقناعها بالعدول عن قرارها ولكن دون فائدة، وتقرر كوريا الشمالية أن تنسحب من اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، ثم تقوم بإيقاف «عمل كل وسائل الفحص والمتابعة التى كانت الوكالة الدولية قد قامت بوضعهم ثم تبع ذلك خطوات واضحة لتشغيل المنشآت النووية التى كانت محل التفتيش الدولى».

وتتوالى الجهود سواء من البرادعى نفسه، كما يروى لقارئ «زمن الخداع»، أو من الدول المعنية، خاصة دول جوار كوريا الشمالية، فى تأكيد جديد على أهيمة دور دول الجوار لإقناع بيونج يانج بالعودة عن قرارها دون أفق واضح لتحقيق ذلك.

التوجه إلى مجلس الأمن

وفى الصفحة التالية يتحدث البرادعى عن إحالة ملف كوريا الشمالية إلى مجلس الامن، مشيرا إلى أن «المجلس الأممى لم يقدم على اتخاذ أى خطوة بشأن هذا الملف، حيث كان المجلس مشغولا كما بقية العالم فى الكارثة التى كانت فصولها تتداعى فى العراق». ويضيف: «كما أن موقف الصين التى لها حق الفيتو والتى كانت تصر على أن حل ملف كوريا الشمالية وما إليه من الملفات يتطلب الحوار والتفاوض دون صدور موقف من مجلس الامن بصدد الوضع فى كوريا الشمالية».

استبعاد الوكالة

وكما يذكر البرادعى فلم يكن للوكالة الدولية للطاقة الذرية «أى دور فى هذه المحادثات» بل أن الوكالة «لم تعلم أى شىء عنها منذ الانسحاب الفعلى لكوريا الشمالية من اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية وسحب المفتشين الدوليين من هناك».

بل يقر البرادعى أنه كثيرا ما كان يسعى من خلال مصادره المختلفة إلى الحصول على معلومات حول ما كان يدور فى تلك المحادثات السداسية. ويقول: «فى الوقت نفسه أعلنت عن عدم ارتياحى عن الطريقة التى تدار بها الأمور فى عدد من المحافل العامة، ومن بين ذلك وفى أثناء إدلائى بمحاضرة امام مجلس العلاقات الخارجية، حيث قلت «إن ما يقلقنى إزاء كوريا الشمالية أن ما يجرى أسوأ رسالة ممكنة للدول التى يمكن أن تفكر فى حيازة الاسلحة النووية والرسالة مفادها انه إذا أرادت دولة أن تكون نووية، فلتحمى نفسها من أى عقاب محتمل عليها أن تقوم بتطوير كبير وسريع لقدراتها النووية».

وعلى الرغم من ذلك يؤكد المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية أنه اختار أن يدعم المباحثات السداسية، ذلك على الرغم مما كان يراه «طوال الوقت أن غياب ردة فعل دولية جماعية إزاء ملف كوريا الشمالية يمثل سابقة شديدة الخطورة».

كوريا الشمالية والعراق

ولا يغفل البرادعى أن يقارن بين حال التعامل مع كوريا الشمالية بالإصرار على التفاوض رغم رفض بيونج يانج إعادة المفتشين وحال التعامل مع العراق بالاصرار على الحرب رغم تعاون بغداد مع فرق التفتيش الدولية، بل أنه أبلغ مجلس المحافظين للوكالة الدولية للطاقة الذرية أن الدولة التى لا تتحرك بسرعة لتطوير قدراتها النووية، فى إشارة إلى كوريا الشمالية، قد تتعرض لحرب استباقية، كما كان الحال قد اصبح مع العراق.

وبالفعل فإن استخدام بيونج يانج للشهور التالية لطرد المفتشين الدوليين فى تطوير قدراتها النووية والاقتراب اكثر واكثر من مرحلة التسلح النووى قد دفع بها لرفع سقف مطالبها حسبما يكشف «زمن الخداع».

ويقول البرادعى: «وفيما استطعت قراءته بين السطور حول المحادثات السداسية فإن مطالب كوريا الشمالية مقابل وقف برنامجها النووى كانت بالفعل قد تجاوزت الحصول على مفاعليين نوويين لأغراض سلمية من الولايات المتحدة الأمريكية وانها اصبحت تشمل الحصول على المزيد من المعونة والتوصل لاتفاق حول حزمة ضمانات أمنية إلى جانب تطبيع العلاقات مع واشنطن».

ويضيف البرادعى: «كما كان باديا لى أن واشنطن، وبدرجة ما طوكيو، كانت تريد على الجانب الآخر أن تتحرك بيونج يانج نحو تفكيك برنامجها النووى بدرجة تحول دون استعادة تفعيل دورة الوقود النووية. بل أن الولايات المتحدة كانت تسعى لعدم حصول كوريا الشمالية على معونة دولية قبل أن تقوم بيونج يانج باتخاذ خطوات جادة فى سبيل تفكيك برنامجها النووى وتقديم ضمانات كافية فى هذا الشأن، أما الصين وروسيا وكوريا الجنوبية فبدو أميل لموقف أقل تشددا يقوم على التبادلية بمعنى أنه كلما اتخذت كوريا الشمالية خطوة حصلت على مكافئة لها».

السحب تنقشع ــ أو هكذا تبدو

«وفجأة وبدون مقدمات بدأت السحب تنقشع حيث إن الجولة الرابعة للمفاوضات التى كانت قد توقفت دون نتائج فى أغسطس من عام 2005 قد استؤنفت فى شهر سبتمبر وتوصلت الاطراف الستة إلى اتفاق حول إعلان مشترك يحدد المبادئ التى سيتم العمل على أساسها مع الوضع بالنسبة لكوريا الشمالية»، حسبما يروى البرادعى. ويضيف أن الاعلان شمل اشارة إلى موافقة كوريا الشمالية التخلى عن برنامجها للتسلح النووى والعودة إلى مظلة اتفاقية حظر انتشار الاسلحة النووية ونظام الضمانات الذى تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتنفيذه.

السبب فى هذا التطور، كما يحلل البرادعى، هو تغير الموقف الامريكى والناجم بدوره عن اختراق صفوف المتشددين الامريكين بشخصية ليست بعيدة بالضرورة عن التشدد ولكنها أيضا ليست بعيدة عن التعقل والاتزان. ويقول: «أظن أن احد أهم الاسباب هو تولى كوندوليزا رايس منصب وزيرة الخارجية الامريكية، فاستطاعت أن تقنع بوش ــ بعكس ما كان يقول به نائب الرئيس الامريكى ديك تيشينى ومعاونيه ــ بأن هناك حاجة لتبنى نهج مختلف إزاء كوريا الشمالية».

وبحسب رواية البرادعى: «بدا تأثير رايس واضحا ايضا فى اختيار كريستوفر هيل رئيسا لوفد التفاوض الامريكى المشارك فى المباحثات السداسية، ثم ارتقى هيل بعد ذلك بعدة اشهر ليكون مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشئون الشرق الأدنى. وكان هيل ديبلوماسيا يؤمن بالبراجماتية وكذلك بالبناء المتدرج للثقة واستطاع بالفعل أن يتفاعل مع المسئولين فى كوريا الشمالية».

ويضيف البرادعى: «تمكن هيل من تحقيق اختراقات واضحة مع المسئولين فى كوريا الشمالية للدرجة التى اخذ معها بعض اليابانيين، على ما يبدو، يلقبونه مزاحا بكريس يونج ــ هيل، فى اقتباس عن اسم الزعيم الكورى الشمالى وإشارة فى نفس الوقت إلى قدرته على التعاطى مع بيونج يانج باللغة التى تقبلها وتتفهمها».

غير أن كل ذلك لم ينتج اتفاقية، وحسبما يروى البرادعى فى ذات الفصل الثانى من كتابه «عادت المباحثات للتوقف ثانية وقامت الولايات المتحدة الأمريكية بتجميد 25 مليون دولار تخص كوريا الشمالية فى احد البنوك الأمريكية فى ماكو بدعوى أن هذه الأموال محولة فى إطار عمليات غير قانونية ترتبط بعمليات لغسل الاموال وتزوير العملات النقدية».

التجربة النووية

«ومع دخول المفاوضات مرحلة جديدة من التعرقل أعلنت كوريا الشمالية انها ستقوم بأولى تجاربها النووية، وهو ما كان بالفعل فى التاسع من اكتوبر عام 2006 ــ أى بعد ستة ايام فقط من التهديد الصادر عن بيونج يانج»، كما يتذكر البرادعى.

ويقول البرادعى إن الاختبار الذى اجرته بيونج يانج لم يكن قويا بالضرورة ولكنه على الرغم من ذلك فإنه اثبت أن «كوريا الشمالية على الرغم مما تعانيه من فقر وعزلة ووقوعها تحت التهديد الامريكى تمكنت من تحدى العالم وتمكنت أيضا من أن تلتحق بالنادى النووى الذى كانت عضويته مقصورة على بلدان قليلة من العالم».

وفى هذه اللحظة تحدثت شخصيات امريكية معلنة فشل إدارة الرئيس جورج دبليو بوش فى إدارة أزمة ملف كوريا الشمالية النووى، كما يتذكر البرادعى ببعض التفاصيل. وتحدث المتشددون أيضا عن ضرورة اتخاذ قرارات اكثر حدة تجاه بيونج يانج، لكن ما تحدثت به رايس مع البرادعى نفسه كان بمثابة دعوة لدخول الوكالة الدولية للطاقة الذرية على خط المباحثات ثانية.

ويقول البرادعى إن رده لرايس جاء إيجابيا، حيث أشار إلى أن الوكالة تستطيع أن تبدأ «بالقيام ببعض مهام التفتيش التى تكون محل اتفاق مع حكومة كوريا الشمالية، على أن تتوالى هذه العمليات وتتصاعد فى مراحل لاحقة»، وهو ما اتفقت معه رايس.

وجاء قرار البرادعى، كما يروى فى «زمن الخداع»، بالسفر إلى بيونج يانج متوائما مع جملة من الإشارات والاستجابات بين واشنطن من بيونج يانج.

الغرفة الباردة

«وفى مارس 2007، بدأت أول زيارة لى لكوريا الشمالية منذ نحو خمسة عشر عاما، إلا أن هذه الزيارة بدأت بعثرة، حيث كنت قد تقدمت بطلب عبر الصين إلى السلطات فى كوريا الشمالية لتشمل ترتيبات الزيارة لقاء لى مع الزعيم الكورى كيم جونج إيل، وعندما توقفت فى بكين متوجها إلى بيونج يانج قال لى المسئولون الصينيون إن نظراءهم من كوريا الشمالية ممتعضون لأننى لم أتوجه إليهم مباشرة بطلب لقاء الزعيم الكورى، خاصة أن الدعوة لزيارتى كانت قد جاءت بمبادرة من بيونج يانج»، حسبما يكتب البرادعى فى «زمن الخداع».

وفى الصفحات التالية يروى المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية تفاصيل زيارة فى أيام باردة لبيونج يانج واقامة فى غرفة باردة فى أحد فنادقها المتواضعة الحال ومحادثات جاء بعض منها باردا أيضا مع المسئولين فى كوريا الشمالية.

«بعد الترحيب بنا، تعرضنا لسلسة من المواقف غير المفهومة ــ ولم يكن ذلك مستغربا بالنسبة لما هو معتاد من كوريا الشمالية، فعلى سبيل المثال تم إلغاء موعد كان مقررا لنا مع نائب الوزير الكورى الذى يرأس وفد بلاده فى المباحثات السداسية، وجاء ذلك الإلغاء فى اللحظة الاخيرة. ورغم أن الاعتذار جاء بسبب مرض المسئول الكورى، غير أن التفسير الاعلامى لذلك كان معبرا عن الاعتقاد بعدم جدية كوريا الشمالية فى التعاون مع الوكالة الدولية»، يروى البرادعى، مضيفا أنه لم يكن واثقا إذا ما كان المترجم ينقل بدقة كل ما يقول إلى كبار المسئولين الكوريين أم إذا ما كانت الترجمة تأتى بتصرف خشية من الإغضاب.

أوقات أفضل

وعلى رغم من البرودة التى سيطرت على زيارة البرادعى لكوريا الشمالية فإن ما تلاها كان معبرا عن أجواء أكثر دفئا فى تعامل العالم، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية مع كوريا الشمالية.

وبدأت دفة الأمور تدار باتجاه أوقات أفضل، بل إن كوريا الشمالية، حسبما يروى البرادعى، دعت فرقا من وسائل الاعلام الغربى لزيارة الموقع النووى الذى تم إغلاقه، وفى فبراير 2008 قامت كبيرة المراسلين للشئون الخارجية فى شبكة سى.إن.إن الاخبارية الأمريكية ببث تقرير مباشر من يونج ــ بيون، مشيرة إلى أن كوريا الشمالية «قد كشفت الغطاء النووى الذى كانت تضعه».

السحب تعود

ولكن الإشارات الايجابية لم تؤد بالضرورة لتحرك مستدام نحو التوصل إلى تفاهم سياسى ينهى أزمة ملف كوريا الشمالية النووى، كما يقول البرادعى بتفاصيل ووقائع تقود القارئ نحو اللحظة المحتومة التى تضيق فيها الدائرة ليبدأ الحديث ثانية عن تصاعد الحنق السياسى ومعه استعادة الانشطة النووية لكوريا الشمالية.

«وعادت الأمور للتدهور مرة ثانية مع صيف 2008، حيث تدهور العلاقات بين واشنطن وبيونج يانج بسبب غضب كوريا الشمالية من عدم قيام الولايات المتحدة الأمريكية برفع كوريا الشمالية من على قائمة الدول الراعية للإرهاب»، حسبما يقول البرادعى.

ويضيف: «وحسبما علمت فإن المتشددين فى واشنطن كانوا يريدون الحصول على المزيد من كوريا الشمالية فى مقابل هذه الخطوة، كانوا يريدون التريث حتى التحقق من دقة ما جاء فى إعلان كوريا الشمالية عن نشاطاتها النووية حتى يقوموا برفع اسمها من على قائمة الدولية الراعية للإرهاب. غير أن كوريا الشمالية بطبيعة الحال رأت فى ذلك تراجعا جديدا للولايات المتحدة الأمريكية عن الوفاء بعهودها، فما كان من بيونج يانج إلا أن امرت بإعادة بعض الأجهزة للمواقع التى كان تم اغلاقها وتم إبعاد مفتشى الوكالة عن الموقع فى يونج ــ بيون فى الثامن من أكتوبر».

وبين شد وجذب تستمر العلاقات بين واشنطن وبيونج يانج، وذهاب المفتشين الدوليين لكوريا الشمالية واضطرارهم لمغادرتها، استمر الحال ــ مع تدخلات من الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو أحد دول جوار كوريا الشمالية، بما فى ذلك كوريا الجنوبية التى استطاع مسئولوها، حسبما يروى البرادعى، تجاوز العداء القائم مع كوريا الشمالية للبحث عن المصلحة الحاكمة لدولتين هما فى النهاية لشعبين من «الأشقاء».

ومع 25 مايو 2009، كانت كوريا الشمالية قد أجرت ثانى اختبار نووى لها بنجاح، لتضع الكلمة الختامية بإقرار موقفها عضوا فى النادى النووى.
----

الشروق تعرض كتاب زمن الخداع للبرادعى (3)
إلى مايا، حفيدته ذات الأعوام الثلاثة، يهدى محمد البرادعى، المرشح الرئاسى المصرى والحائز على جائزة نوبل للسلام، كتابه الذى يحكى فيه قصة 12 عاما أمضاها على رأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بحثا عن تقويض انتشار مدمر للسلاح النووى وتخفيض لترسانات نووية قائمة واستخدامات سلمية للطاقة النووية تسهم فى توليد الطاقة وعلاج السرطان ــ أى بحثا عن عالم أفضل يحلم البرادعى أن يسوده الأمن من الدمار والسعى للنماء، عالم يريد أن يتركه لهذه الحفيدة وحفيدات وأحفاد آخرين قد يكونون له يوما، ولأجيال من الأطفال، من بينهم من يعنى به البرادعى بنفسه من خلال كفالة أيتام فى مناطق فقيرة فى القاهرة، وبينهم أطفال فى العراق وإيران وكوريا الشمالية وغيرها يرى البرادعى أنهم يستحقون عالما أفضل.
أربعة فصول كاملة وطويلة يخصصها البرادعى، من كتابه «زمن الخداع»، بترتيب زمنى يفصل بعضها عن البعض، ليروى القصة المتلاحقة الفصول لبرنامج إيران النووى، وذلك بعد أن روى القصة العراقية فى فصلين وقصة كوريا الشمالية فى فصلين آخرين ــ دوما حسب التسلسل الزمنى الذى يتفاعل معه المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية مقارنا بين سياقات تعاطى المجتمع الدولى وقواه العظمى.

فى فصول إيران، المعنونة ببساطة «تقية» و«غير مسموح بأى أجهزة طرد على الإطلاق»، «إيران 2007 ــ 2008» و«إيران 2009»، وبعبارات محكمة الاختيار وبتسلسل للوقائع لا يخلو من مداخلة لطرح التحليل أو إضافة خلفية يشرح البرادعى كيف بدأت قصة الملف الإيرانى وكيف تحركت المباحثات والمكاتبات والزيارات بين طهران وفيينا مقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ناتنز

«فى منتصف عام 2002، وبينما العالم يواجه أزمتين نوويتين، واحدة فى العراق والأخرى فى كوريا الشمالية، جاءت صور الأقمار الصناعية التى تم التقاطها لمبنى خرسانى غير واضح المعالم فى مدينة ناتنز الواقعة بإقليم أصفهان بإيران والتى توحى بأن هذا المبنى ربما يكون مستخدما لأغراض تخصيب اليورانيوم». هكذا يفتتح البرادعى الحديث عن إيران فى الفصل الأول من فصولها الثلاثة والذى يطلق عليه اسم «تقية» أى سياسة اتقاء الضرر وتفادى العداء.

وبعد ذلك بأسابيع قليلة، كما يضيف البرادعى، عقد ممثلون عن المجلس الوطنى الايرانى للمقاومة، وهو كيان ايرانى سياسى معارض، مؤتمرا صحفيا فى واشنطن ليعلنوا عن قيام طهران ببناء منشآة نووية سرا فى ناتنز، لتبدأ أعمال الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى التحقق من هذه المعلومات، مع غلام رضا آغازاده، نائب رئيس الجمهورية الايرانية ومدير المنظمة الوطنية للطاقة النووية فى إيران، وفى فيينا، سبتمبر 2002، كان حديث البرادعى الأول، والذى تلته عشرات بل مئات الاحاديث، حول ملف إيران النووى، كما يتابع قارئ «زمن الخداع».

«وعلى هامش الاجتماع انفردت بآغازاده وسألته عن حقيقة المنشآة التى تم تصويرها فى نانتز وما إذا كانت فعلا تستخدم لأغراض التخصيب، مقترحا انه ربما يجب أن اقوم مع بعض اعضاء الوكالة بزيارة لهذا الموقع للتحقق من حقيقة ما يدور فيه»، يتذكر البرادعى، مضيفا ان محدثه الأيرانى «أجاب بود قائلا: بالطبع سنوجه لكم الدعوة قريبا وعندئذ سيتم إيضاح كل شىء».

ولكن الدعوة تأخرت «واستمرت المماطلة لشهور متتالية»، التقى خلالها البرادعى مع وزير الخارجية الأمريكى كولين باول ومساعده ريتشارد آرميتاج ليخبرهما بأن السياسة الأمريكية إزاء إيران والتى تقوم بالأساس على استخدام المقاطعة والعقوبات على طهران لمنعها من تطوير اسلحة نووية، «ليست بالسياسة المجدية».

وكان هذا هو التفكير الحاكم لنهج البرادعى إزاء الملف الإيرانى وحتى مغادرته منصبه فى فيينا فى 2009 فى وقت لم يكن قد تم بعد فيه التوصل لحل لهذه الإشكالية بناء على ما يصفه بإدراك قائم على الخبرات بـ«أن محاولة منع دولة ما من الحصول على التكنولوجيا النووية إنما يستفز الحماسة الوطنية لدى هذه الدولة ويجعل هدف الوصول إلى تطوير سلاحا نوويا هو أولوية قومية تسعى لها هذه الدولة بكل طاقتها».

طهران ــ فيينا

وفى النهاية، قررت طهران تقديم الدعوة. «وفى أول مقابلة أجريناها فى طهران أقر آغازاده والفريق المعاون له أن المبنى قيد التساؤل فى نانتز هو بالفعل مبنى مخصص لتخصيب اليورانيوم، لكنهم أصروا أنه لم يتم بناؤه بغرض إخفائه عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، يقول البرادعى.

وفى اليوم التالى توجه البرادعى وفريقه إلى الموقع النووى وبرفقتهم آغازاده ونائبه محمد سعدى وعدد كبير من المهندسين والفنيين الإيرانيين. وبحسب شهادة البرادعى فإن حجم الطموح الايرانى اتضح عند زيارة نانتز لأن «ما رأيناه فى نانتز يتجاوز بكثير المفاعل النووى الذى قدمته روسيا لإيران فى بوشهر».

وعقب زيارة نانتز جاء اللقاء مع الرئيس الإيرانى الإصلاحى محمد خاتمى الذى، كما يصف البرادعى فى «زمن الخداع»، قدم الترحيب الحار وتحدث لدقائق بالعربية قبل أن يبدأ السفير الايرانى فى فيينا على أكبر صالحى ترجمة ما قاله خاتمى من تفاصيل حول البرنامج النووى استوقف البرادعى معرفة الرئيس الإيرانى بها بدقة كبيرة.

وبعد حديث خاتمى بدأت سلسلة من اللقاءات والزيارات، ويقول البرادعى: «أدركت مبكرا أننا بصدد التعامل مع فريق يبدو مستعدا للمرواغة لتحقيق أهدافه، وعلى هذا قررت أننى لن أقبل بأية تأكيدات يقدمها الايرانيون بدون الحصول على الأدلة الداعمة لهذه التأكيدات التى بدت ضرورية بصورة قطعية فى هذه الحالة».

تقية

«أخبرنى الكثيرون، بما فى ذلك الرئيس المصرى مبارك، أن العقيدة الشيعية تسمح لاتباعها باستخدام المراوغة وسيلة لتحقيق الأهداف المبتغاة. وقيل لى إن الكلمة المستخدمة فى هذا الصدد هى كلمة «تقية» ــ أى اتقاء الضرر الذى قد يصيب الإنسان أو هؤلاء المسئول عنهم»، يقول البرادعى، مضيفا أنه من جانبه أخبر «المسئولين الإيرانيين أنه بغض النظر عن الأسباب أو الأهداف وراء مراوغتهم، فإن هذه المراوغة من شأنها أن تتسبب فى ضرر بالغ لعلاقتهم بالمجتمع الدولى».

وما بين تقييم مبارك وآخرين، ونصيحة البرادعى، تصرف الإيرانيون، حسبما يروى البرادعى، بقدر من الاقدام والادبار فى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ولم يكن الأقدام والإدبار مقصورا على مراحل زمنية متتالية وتأثيرات دولية متتابعة، خاصة ما يصدر من مواقف عن واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبى، بل أيضا مرتبطا بدوائر مختلفة من دوائر صنع السياسة الإيرانية بها من هو أكثر تشددا وبها من هو اكثر رغبة فى التصالح مع الواقع العالمى.

وبين هذه العواصم العالمية وبين طهران، بدوائرها السياسية المختلفة يتحرك البرادعى ويتواصل بحثا عن حل سلمى للملف الإيرانى النووى.

حقوق نووية

وفى كل المباحثات، التى تصل فى مراحل كثيرة إلى مفاوضات، كانت النقطة الحاسمة للموقف الإيرانى أن طهران من حقها، بوصفها دولة عضو فى اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية أن تمتلك كامل دورة الوقود النووى من ألفها إلى يائها، مع الأخذ فى الاعتبار أن امتلاك كامل دورة الوقود النووى لا يرتبط بالضرورة بالاستخدامات العسكرية وكثيرا ما يستخدم للأغراض السلمية، كما شرح البرادعى فى مقدمة كتابه «زمن الخداع». ولكن لأن امتلاك كامل دورة الوقود النووى هو البوابة الأولى لامتلاك السلاح النووى لمن يريد، فإن الغرب، ومن ورائه، أو ربما من أمامه، إسرائيل، يقف رافضا لممارسة إيران هذا الحق، خاصة أن طهران لم تكاشف الوكالة الدولية للطاقة الذرية بكل نشاطتها النووية، كما يسجل البرادعى.

«وبالنسبة لواشنطن فإن كذب إيران دليل دامغ على أنها تسعى لتطوير اسلحة نووية»، يقول البرادعى، مضيفا فى ذات الفقرة «وبالطبع فإن الوصول لمثل هذا الاستنتاج لم يكن لديه ما يؤيده من الدليل الفعلى»، سواء لدى الحكومات الغربية الحانقة على سلوك إيران النووى أو لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية المسئول الأول عن متابعة جميع النشاطات النووية للدول الأعضاء.

أيام وسنوات التفاوض

ولم تكن مهمة البرادعى فى حث إيران على كشف كل أوراقها النووية سهلة، كما أن مهمته للتفاوض على حل يضمن لإيران الحصول على الوقود النووى اللازم للأغراض السلمية لم يكن سهلا خصوصا أن قيادات إيرانية كانت تجرى مفاوضات مع عواصم غربية، خاصة الأوروبية، دون تدخل مباشر أو حتى إخطار وافٍ للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وإن كانت فى المراحل الفاصلة تتم بتدخل حاسم ومقترحات محددة من قبل المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الذى يروى تفاصيل دقيقة عن التفاوض يسيطر عليها قلقه، خاصة بعد الحرب التى قادتها الولايات المتحدة الأمريكية على العراق فى 2003، من تكرار تلك التجربة المأساوية وخشيته فى الوقت ذاته من المدى الذى يمكن أن تذهب إليه المراوغات الايرانية، بالرغم من تأكيده دوما فى «زمن الخداع» أن أحدا لم يأت بدليل على تورط إيران فى تطوير برنامج للتسلح النووى، دون إغفال إشارات جديرة بالاهتمام انه «ربما» كان لدى إيران نوايا تسلح نووى فى مراحل سابقة، خاصة عقب الحرب الطاحنة والطويلة التى دارت رحاها بينها وبين العراق فى الثمانينات والتى استخدم صدام حسين خلالها أسلحة كيميائية.

لقاء بوش

وحسبما يتابع قارئ «زمن الخداع» فى الفصول الأربعة المخصصة لإيران فإن التعامل الأمريكى مع الملف الايرانى كان فى الأغلب على مستوى رفيع للغاية، بما فى ذلك مستوى الرئيس الأمريكى نفسه. ولأن سنوات البرادعى فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية كانت متزامنة مع سنوات جورج دبليو بوش فى البيت الأبيض.

«استقبلنى بوش بحديث ودود حول لعبة البيسبول التى أهتم بها وأتابعها وتحدثنا قليلا عن أحد فرق هذه اللعبة الأمريكية»، يقول البرادعى حول لقائه مع بوش حول إيران فى واشنطن فى مارس 2004.

لقاء بوش والبرادعى فى واشنطن 2004، كما غيره من اللقاءات التالية بين الرئيس الأمريكى ومدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كان به دوما مزيج من العبارات الودودة ومقترحات من البرادعى يبدى بوش حماسا لها وأعرب عن التوجس الشديد إزاء إيران من قبل الرئيس الامريكى، يحاول البرادعى أن يهدئ منه فى ضوء ما لديه من معطيات تفيد بأنه على الرغم من المراوغة الإيرانية فإنه لا دليل على سعى طهران لامتلاك السلاح النووى وبالنظر إلى خشية لا يخفيها كثيرا صاحب «زمن الخداع» من أن ينفلت زمام الأمور وتقع ضربة عسكرية ينقل عن بوش قوله فى ربيع 2004 أن إسرائيل قد تقوم بها ضد إيران ــ وكان البرادعى يعلم كما يكرر أن صقور إدارة بوش داعمين لهذه الضربة.

«أكدت للرئيس بوش أن إطلاق التهديدات فى وجه طهران لن يكفى والمهم أن تكون هناك أيضا أسباب لتحفيز إيران على التعاون»، يقول البرادعى حول أول لقاء مارس 2004.

الحوار بين أمريكا وإيران

ويشدد البرادعى على أنه كثيرا ما سعى لإقناع الولايات المتحدة الأمريكية بأهمية الدخول فى حوار مباشر مع إيران بوصف أن تحقيق ذلك الحوار واحترام العزة والكرامة الإيرانية هما أمران أساسيان، حسب تقديره المبنى على خبرات سابقة ومباحثات عديدة من مسئولين إيرانيين، للتوصل إلى صفقة ما حول البرنامج الإيرانى النووى تمكن إيران من الحصول على مبتغاها التكنولوجى وتطمأن الغرب بأن طهران ليست فى وارد امتلاك أسلحة نووية بل وتخلق نوعا من التفاهم حول سياسات فى منطقة الشرق الأوسط الأوسع بين واشنطن وطهران بالنظر إلى المصالح المشتركة والتأثير المتبادل فى بلدان مثل أفغانستان والعراق.

وبحسب فصول البرادعى الأربعة حول إيران فإن آفاقا للحوار تفتحت فى مراحل مختلفة وحصلت على درجات متفاوتة من الدعم من هذه الدائرة أو تلك فى العاصمة الأمريكية، ولكن المقاومة الامريكية لهذا الحوار، بل والعرقلة من بعض الأطراف الإيرانية له، وأسباب أخرى يروى البرادعى تفاصيلها حالت دون اكتمال هذا الحوار بالصورة التى يمكن أن تنجز اتفاقا. والأسوأ من ذلك أن سيطرة المتشددين ــ الذين لا يضع البرادعى بوش ومستشارة الأمن القومى فوزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ضمنهم بالضرورة، فى واشنطن، وعدم ضبط الاوروبيين وروسيا الذين دخلوا على خط التفاوض مع إيران لوقع الحوار مع طهران، إضافة إلى استمرار المراوغة الإيرانية كثيرا ما تسببوا فى صدور قرارات متتالية من مجلس الأمن بحق طهران وما يتبعه أو يسيقه ذلك من تعنت إيرانى إزاء التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

الحملات على البرادعى

وفى كل مرة كان البرادعى يقدم فيها على الدفع نحو فتح آفاق للتسوية الدبلوماسية كان يبدو كما لو أنه يطأ على قدم أحدهم، فتنطلق الحملات ضده مرة من طهران ومرة من واشنطن، والانتقاد دائما ــ كما كان الحال خلال التعامل مع الملف العراقى ــ يأتى باتهام البرادعى بالتساهل مع إيران أو التواطؤ ضدها مع امريكا. الصحف الايرانية تقول إن البرادعى شخص محبط ويقع تحت التأثيرات الأمريكية، والصحف الامريكية تتهم البرادعى بالتجاوز عن سعى إيران لامتلاك السلاح النووى. ولا تقتصر الحملات التى يتابع تفاصيلها قارئ «زمن الخداع» على الصحف ووسائل الإعلام بل تشمل ايضا الدوائر الدبلوماسية من هنا ومن هناك.

وبالطبع فإن الصحف الإسرائيلية شاركت فى الحملات على البرادعى بما فى ذلك ما نشرته صحيفة الجيروزاليم بوست من اتهام للبرادعى بأنه لا يتمتع بالحياد أو التجرد فى التعامل مع الملف الايرانى «وإننى لطالما كنت من اول المدافعين عن إيران بل وأننى استخدم صلاحياتى للمساهمة فى نشر الطاقة النووية لأغراض الاستخدامات العسكرية».

تخصيب اليورانيوم

وبعد مضى أربع سنوات من التفاوض غير المؤدى إلى حل وبين شد وجذب من ايران والغرب وارتفاع للاصوات المتشددة هنا وهناك وصلت إيران إلى ما لم تكن إسرائيل وامريكا واى من حلفائها الغربيين يريدونها أن تصل: تخصيب اليورانيوم، وهو الامر الذى أكد البرادعى فى مقدمة «زمن الخداع» أنه على الرغم من كونه نقطة متطورة فى تشغيل دورة الوقود النووى فإنه لا يعنى بالضرورة السعى الأكيد للسلاح النووى خاصة ان للتخصبيب درجات يتطلب الوصول إلى المراحل المتطورة منه الكثير من العمل والوقت دونما ان يكون فى ذلك ايضا دليل على النوايا العسكرية لأن هناك دولا تستخدم اليورانيوم المخصب بدرجة 90 بالمائة للأغراض السلمية، كما يشرح مؤلف «زمن الخداع».

وفى أغسطس من 2006 أخبر البرادعى مجلس المحافظين للوكالة الدولية للطاقة الذرية ان إيران قامت بالفعل بتخصيب اليورانيوم بعد ان كانت واشنطن تصر على أن طهران ليس من حقها امتلاك «ولا جهاز واحد من أجهزة الطرد المستخدمة فى التخصيب»، وبعد ان تبنى مجلس الامن، بناء على مبادرة أمريكية بالأساس، قرارا مشددا للعقوبات على طهران، تحت الفصل السابع لميثاق الامم المتحدة الذى يجيز استخدام القوة فى حال عدم الامتثال، فى وقت تزامن مع اشتعال لبنان بالحرب التى شنتها إسرائيل فى 2006.

ويقول البرادعى: «إن فهم الجدل الذى أثير حول الملف الايرانى النووى لا يمكن ان يتحقق دون نظرة أوسع لطبيعة الأمور المضطربة فى الشرق الأوسط، خاصة بالنظر إلى الترسانة النووية التى تمتلكها إسرائيل ــ مع الأخذ بالاعتبار ان اسرائيل ليست عضوا فى اتفاقية حظر انتشار الاسلحة النووية، وإن كان ذلك لا يحول دون الشعور بوجود اختلال فى ميزان القوى فى المنطقة».

ويضيف «وبينما فشلت جهود التوصل لتسوية دبلوماسية حول الملف النووى الإيرانى، تمكن إيران من تقوية موقفها كقوة إسلامية فاعلة فى المنطقة واستغلت التطورات والأزمات فى العراق وأفغانستان والمأساة الفلسطينية والحرب اللبنانية لتقوى الشعور السائد لدى البعض بأن الغرب لديه انحياز ضد المسلمين. ولأن إيران ينظر لها على انها الدولة الاسلامية الوحيدة التى استطاعت الوقوف فى وجه الغرب فإنه اصبح ينظر لها على أنها نصر الحقوق الوطنية المهدرة للشعوب الإسلامية».

الفرص الضائعة

ويرى البرادعى أن التوصل إلى تفاهم بين واشنطن وطهران بمساعدة روسيا والدول الأوروبية والوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يكن بالضرورة امرا مستحيلا وأن تاريخ التفاوض حول الملف الإيرانى به الكثير من الفرص الضائعة، ويرجع ذلك لأسباب عديدة يضع على رأسها سيادة منطق التشدد ولا يسقط منها تاريخ حديث به ذكريات غير طيبة فى التعامل بين البلدين، خاصة ما يتعلق بما قامت به المخابرات الأمريكية فى منتصف الخمسينيات من إسقاط لحكومة مصدق بغرض دعم الشاه وما قامت به الجمهورية الإسلامية الإيرانية فى مطلع عهدها من احتجاز لرهائن فى السفارة الأمريكية بطهران.

دول الجوار وتماهى الكثير منهم مع المواقف الامريكية إزاء إيران يبدو أيضا من اسباب إضاعة بعض فرص التفاوض، حيث إن عواصم هذه الدول كانت تتدخل أحيانا لدى قيادات دولية ساعية لإيجاد مخرج لوقف هذا الجهد، ومن ذلك ما يشير البرادعى إلى أنه وقع فى صيف 2007 عندما أراد جاك شيراك ان يعمل مع مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول مبادرة للتفاوض «وللأسف فإن دول الخليج ومصر بدلا من أن تدعو لحل دبلوماسى كانت تلح على القاهرة فى ممارسة أقصى درجات الضغط على إيران، بل إن الأمر وصل ببعض القادة العرب أن يطلب من شيراك عدم إرسال وزير خارجيته للتشاور مع المسئولين الايرانيين.

وفيما فهمت فإن الفرنسيين أرادوا الابقاء على حسن العلاقات مع اصدقائهم وكذلك الحفاظ على مصالحهم فى منطقة الخليج المتعلقة بعمل شركات البترول الفرنسية هناك»، ذلك بينما كانت تسعى دول أخرى مثل سويسرا والسويد لاستكشاف آفاق الحلول الدبلوماسية بما يحول دون المزيد من التدهور فى الموقف السياسى ــ وهو ما كان بالفعل، حيث أصدر مجلس الامن قرارا جديدا يشدد ويوسع من نطاق العقوبات المفروضة على طهران بينما كانت الأخيرة قد حققت المزيد من التقدم فى امتلاك التكنولجيا النووية، الذى أصبح يصعب الرجوع عنه من خلال مبادرات تدعو لوقف التخصيب أو تعليقه، وعاد الحديث عن العمل العسكرى ضد إيران يتردد.

ثم عاد حديث التفاوض ثانية بمبادرات جاء بعضها من البرادعى وبعضها من طهران والبعض الاخر من مجموعة الخمسة زائد واحد، ولكن دون أن يخلص أى منها إلى اتفاق ينهى الازمة رغم جولات ولقاءات واحاديث دبلوماسية متوالية جرى بعضها فى المكتب المتواضع لعلى خامئنى المرشد الاعلى للثورة الإسلامية فى طهران بينما الجميع يحتسى الشاى ويتناول الفواكه المجففة وبعضها الآخر فى الأجواء الفخمة لمكاتب الإليزيه بباريس بينما الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى يحتسى قهوته ويتحدث على جانب من الغرفة فى هاتفه الخلوى.

2009 ــ أوباما

جاءت إدارة أوباما بدعوة لحوار اقرب مع دول العالم الإسلامى، وعاد الامال ترتفع فى التوصل لحل نهائى للملف الإيرانى، حيث «وبدت الساحة مهيأة لصفحة جديدة»، وذهب البرادعى للقاء أوباما والمشاركة فى مؤتمر دعا إليه الرئيس الأمريكى الجديد عن الأمن النووى حول العالم فى سبتمبر 2009، وتناول الحديث إيران وأفكارا عن مبادرة جديدة أبدى اوباما تأييده لها خاصة أنها كما قال للبرادعى «تحظى بتأييد إسرائيل».

لكن الصفحة الجديدة، وإن كانت أقل توترا من سابقتها من صفحات الملف الايرانى، لم تنته أيضا بالخاتمة المأمولة رغم جهود جادة بذلت وآفاق للحوار المباشر تفتحت، ليذهب البرادعى عن مكتبه فى فيينا، الذى احتفظ خلاله بمنصبه لثلاث مدد متتالية بالرغم من عناد إدارة بوش، بينما الملف الايرانى مازال عصيا عن الحل لأسباب بعضها يرتبط باستمرار غياب الثقة وبعضها الآخر يرتبط باستمرار تأثير المتشددين فى طهران كما فى واشنطن، رغم تغيب إدارة جورج دبليو بوش ولأن مجمل تعامل الغرب مع الملف الإيرانى بدا قائما على أن «لأن الغرب لم يكن مستعدا لأن يقبل بأى شىء أقل من تنازل إيرانى كامل وتام وبدون أى وسيلة للحفاظ على ماء الوجه»، وهو ما لم تكن طهران لتقبل به.
----

الشروق تنشر زمن الخداع للبرادعى (4)
فى مذكراته عن سنوات ترؤس الوكالة الدولية للطاقة الذرية.. محمد البرادعى يتحدث عن قصة تخلى القذافى لأمريكا عن برنامجه للتسلح النووى الذى حصل عليه من بازار عبدالقدير خان النووى.
«فى مايو 2003 وبينما كنا منشغلين بالكشف عما تخفيه إيران فيما يتعلق ببرنامجها النووى، وفى أثناء لقاء جمعنى مع سفير بريطانيا فى فيينا علمت أن أحد كبار مسئولى المخابرات البريطانية يشير إلى أنه ربما هناك ما ينبغى التوجس بشأنه فى ليبيا وحسب ما نقله إلى السفير بالبريطانى فإن المسئول المخابراتى أشار إلى مفاعل بحث نووى بمدينة تاجورا شرق طرابلس»، حسبما يتذكر محمد البرادعى فى الفصل الذى يخصصه فى كتابه «زمن الخداع» حول «ليبيا».
كما هو الحال فى كثير من المواقف التى تعرض لها المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية فإن الولايات المتحدة الأمريكية بدت متدخلة فى حجب المعلومات اللازم إيصالها إليه، سواء من خلال المنع المباشر أو من خلال مطالبة مسئولين من دول غربية أخرى، خصوصا بريطانيا، بحجب المعلومات ــ وهذا ما حدث مع الملف الليبى، فلم تكتف واشنطن بأنها لم تخبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية بما وصل إليها من معلومات عن برنامج نووى ليبى محتمل، بل حالت أيضا دون أن تقدم بريطانيا المعلومات لدى مطالبة البرادعى بها.

وبعد أيام جاء الخبر اليقين من خلال رسالة من معتوق محمد معتوق نائب رئيس الوزراء الليبى لشئون العلوم والتكنولوجيا الذى أخبر البرادعى أن وزير خارجية ليبيا على وشك الإعلان عن اعتزام بلاده القيام بتفكيك برنامج لأسلحة الدمار الشامل كان بحوزتها.

ليبيا تشترى من البازار النووى

ثم ذهب معتوق لفيينا ليقدم للبرادعى شيئا من التفاصيل. ويقول البرادعى: «وملخص القصة التى نقلها لى معتوق أن ليبيا وبعد ما تعرضت له من قصف امريكى فى منتصف الثمانينيات قررت أن تطلق برنامجا للتسلح الشامل وهو ما بدأت فيه بالفعل وأنها منذ سنوات تعمل على تطوير برنامج للتسلح النووى.

وأشار إلى أن ليبيا حصلت على التكنولوجيا النووية والمواد اللازمة لتطوير البرنامج من العالم النووى الباكستانى الشهير عبدالقادر خان ــ المعروف بأنه قام ببيع الأسرار النووية للعديد من الجهات ــ ومن خلال شبكة من الشركات والأفراد».

ثم يضيف ناقلا لقارئ «زمن الخداع» شعورا يمزج الضيق والغضب والصدمة» وبينما كنت أستمع لمعتوق أدركت أن ما يخبرنى به لا يتعلق فقط بما قامت به ليبيا للحصول على سلاح نووى ولكن بما يدور فى السوق السوداء للتكنولوجيا والمواد النووية التى أدركت أنها موجودة بالفعل.

ولقد شمل حديث معتوق إشارات إلى العديد من الدول فى أفريقيا وآسيا وأوروبا، بعضها يقوم بتقديم المعلومات والبعض الآخر بالمواد، وكلها تتجسس على بعضها البعض».

وحسب ما يخبر البرادعى قارئه فى الفصل المعنون «ليبيا» فإن مثار القلق والذهول والغضب لدى البرادعى ليس بالضرورة المعلومات التى حجبت قسرا عن علم الجهة الأولى بالأخطار، وهى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حول برنامج تسلح نووى محتمل بقدر ما كان قدرة خان على تسريب الأسرار النووية لزبائن عبر أرجاء العالم، كل على قدر ما يدفع.

ويقول: «لم يكن أحد يعلم على وجه الدقة عدد الأشخاص الذين نقل لهم عبدالقادر خان ما لديه من معلومات ولا كيف قاموا بتطويرها وفى الوقت نفسه لم يكن هناك الكثيرون فى ليبيا من يعلم المبالغ المالية التى حصل عليها خان نظير الخدمات التى قدمها لليبيا».

وبالتالى فإن السؤال الملح على أذهاننا جميعا كان يدور حول الدول أو ربما حتى الجهات الأخرى التى استطاعت أن تحصل على هذه المعلومات من خلال الشبكة المتعاملة مع عبدالقادر خان ومن خلال توفير الموارد المالية اللازمة لكى تدفع نظير هذه الخدمات».

المفاوضات السرية


بين ليبيا والغرب، خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، دارت مفاوضات سرية حول تخلى طرابلس عن برنامجها النووى الذى كان مازال فى طور الإعداد لصالح واشنطن على أن تساعد الأخيرة نظام القذافى فى إنهاء العزلة والعقوبات المفروضة على بلاده لسنوات طويلة، هكذا أخبر معتوق البرادعى، وأضاف، حسبما يذكر الأخير، أن ليبيا أرادت أن تخبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية ولكن الولايات المتحدة الأمريكية رفضت ذلك.

«ولم أعلق بشىء على تلك الملاحظة الأخيرة على الرغم من أننى عدلت من وضع جلوسى قليلا»، حسبما يتذكر البرادعى.

ولم يحصل البرادعى من واشنطن ولندن سوى على كلمات اعتذار باهتة وحجج تتعلق بالحرص على ألا تفشل المفاوضات قبل الوصل لاتفاق نهائى وهى الاعتذارات والحجج التى لم تكن لتقنع مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذى كانت خشيته كبيرة من عملاء البازار لم يكونوا بالضرورة يقتصرون على ليبيا.

«وفى الوقت نفسه فإننى كنت أفكر فى مسألة التفتيش التى لم تكن تتيح للوكالة الدولية للطاقة الذرية المزيد من المعلومات حول ما كان يحدث بوصف أن ليبيا هى عضو فى اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية..

وقررت أن أتخذ موقفا إيجابيا إزاء كل ما يجرى فاصطحبت فريقا من خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتوجهنا إلى طرابلس لزيارة استغرقت الأيام القليلة التى تفصل بين الكريسماس ورأس السنة» يتذكر البرادعى، مضيفا: «وفى تصريحات صحفية حول ما رأيت فى ليبيا وصفت حال البرنامج النووى لطرابلس بأنه فى أولى مراحله».

لقاء القذافى

ثم جاءت الدعوة للبرادعى للقاء القذافى فى ثكنة العزيزية العسكرية بالقرب من طرابلس. «وانتظرت لقاء القذافى فى غرفة باردة وكنت أتمنى فى هذه اللحظات أن أرتدى معطفى.. وتم اصطحابى إلى غرفة جيدة التدفئة بها القليل من الأثاث ومكتب كبير ومكتبة واسعة بها مجموعة قليلة من الكتب العربية المتناثرة على رفوفها.

وخلف هذا المكتب كان العقيد القذافى يجلس مرتديا جلبابا ليبيا تقليديا»، حسبما يروى البرادعى.
ثم يضيف: «تحدث القذافى بصورة ألطف مما توقعت وجاء حديثه به قدر من الود وأيضا قدر من التحفظ».

وحسب رواية البرادعى فإن القذافى أبدى اندهاشه من كراهية الحكومة المصرية للبرادعى، مشيرا لمحاولة من النظام المصرى إثناء ليبيا عن التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ثم سأل القذافى البرادعى عما إذا كان ناصريا، «فأجبته بالنفى وهى الإجابة التى ربما خيبت آماله لأنه كان ينظر لناصر على أنه النموذج الأعلى».

ثم تحدث القذافى عن قراره إنهاء برنامج التسلح النووى ورغبته فى إعطاء ليبيا المكانة التى تستحقها وحماسه لتحقيق نقلة حقيقية فى حياة الليبين.

ويقول البرادعى «والحقيقة أن القذافى تحدث بحماس خلال هذا اللقاء عن رغبته فى تطوير ليبيا وتحدث عن رغبته فى تحسين البنية التحتية وبناء المزيد من الطرق وكذلك عن رغبته فى أن يحصل الطلاب الليبين على منح دراسية فى الجامعات الغربية وان تحقق ليبيا تقدما فى مجال العلوم والتكنولوجيا». ويضيف: «وسألنى القذافى عما إذا كنت أستطيع أن أثير هذه الأمور مع جورج بوش وتونى بلير لأحصل على دعمهما لأفكاره بالنسبة لمستقبل ليبيا».

التفكيك

ثم جاءت مرحلة عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومفتشيها لتفكيك ما كانت ليبيا قد حققته بالفعل من برنامج التسلح النووى واستمرار متابعة هذا الملف، ولكن التدخلات الأمريكية والبريطانية لم تتوقف بل وصلت إلى حد السعى لإرسال خبراء من واشنطن ولندن ليقوموا هم بعملية تفكيك البرنامج وهو العمل الذى من المفترض أن تقوم به الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ويقول البرادعى: «كنت سئمت من تلك الألاعيب وقررت أننى لن أبقى صامتا وسأتحدث فى الأمر علانية إذا ما أصرت بريطانيا والولايات المتحدة على المضى قدما فى عرقلة عمل الهيئات الدولية» مشيرا إلى أنه نقل تهديدا صريحا إلى واشنطن ولندن حول اعتزامه إخطار مجلس محافظى الوكالة بصورة علنية بأن بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية تعوقان قيامه بمسئولياته القانونية.

فاتصل بالبرادعى كولين باول وزير الخارجية الأمريكى ليخبره أنه سيرسل إليه مبعوثا للنقاش معه فى رغبة أمريكا وبريطانيا فى الاشتراك فى عملية تفكيك البرنامج النووى الليبى «وقال لى باول: ينبغى علينا أن نحترم ما لديك من قدرات.. وبالطبع نحن أيضا لدينا قدراتنا».

وبعد تسوية الخلافات خلال لقاء جمع البرادعى والمتشدد الأمريكى جون بولتون فى لقاء تحسب إزاءه البرادعى لما عرف عن بولتون من رفض لآليات عمل الدبلوماسية متعددة الأطراف، استمر عمل مفتشى الوكالة فى ليبيا فى أجواء يقول البرادعى إنها مثلت «تغييرا إيجابيا بالمقارنة بالتجارب التى مررنا بها فى العراق وكوريا الشمالية وإيران» بالنظر إلى التعاون الكامل من قبل الليبين.

مصر ــ ليبيا

وخلال متابعته لتفكيك برنامج التسلح النووى الليبى كان البرادعى شاهدا على التوتر فى العلاقات المصرية الليبية جراء غضب القاهرة من أن طرابلس قد أخبرت الرئيس المصرى حسنى مبارك نفسه بأنها ليس لديها أى أسلحة نووية وهو ما دفع الأخير للحديث علنا عن هذا الأمر، مما أثار غضب مبارك عندما تم الإعلان عن البرنامج النووى الليبى وتفكيكه وإرسال معداته إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث قامت وسائل الإعلام الغربية بتصويرها ــ فى واقعة أثارت حفيظة الليبين أنفسهم ودفعتهم لمطالبة البرادعى بالتدخل لدى الرئيس الأمريكى جورج بوش لاتخاذ قرار بوقف تلك الحملة الإعلامية.

«من جانبهم كان لدى المسئولين الليبين الكثير من النقد حول أداء النظام الرسمى المصرى، خصوصا فيما أشاروا إليه من «تقدم مبارك فى العمر بدرجة لم يعد من الممكن معها أن يقدم الكثير سواء على الصعيد الداخلى لمصر أو للعالم العربى». وعلق أحدهم قائلا: أنت تعلم أهمية مصر من حيث قيادة العالم العربى، فإذا توقفت القيادة المصرية فإن العالم العربى لا يتحرك كثيرا، أما إذا تحركت مصر للأمام فإن العالم العربى سيحذو نفس الحذو»، يقول البرادعى.

سيف الإسلام ضيفًا على البرادعى
بمبادرة من شكرى غانم، رئيس وزراء ليبيا قبل البرادعى استضافة سيف الإسلام القذافى بوصفه ثانى أبناء العقيد القذافى، والمسئول عن التوصل للاتفاقية بين ليبيا وأمريكا وبريطانيا حول برنامج ليبيا لأسلحة الدمار الشامل.

ويقول البرادعى: «وعندما وصلا إلى منزلى قام غانم بتقديم سيف الإسلام ثم انصرف، وكان واضحا أن سيف الإسلام كان يسعى للحصول على النصيحة حول جملة من القضايا، وبدأ بطرح أسئلة حول صورة ليبيا فى الولايات المتحدة الأمريكية وفى الغرب عموما».

الإرهابيون والسلاح النووى

«لقد مثل الكشف عن الشبكة السرية لعبدالقدير خان ثالث تطور فيما يتعلق بحال الوضع النووى حول العالم، ولقد كان التطور الأولى هو خرق دول أعضاء فى اتفاقية حظر الانتشار النووى لالتزاماتها المقررة حسب الاتفاقية، بسعيها سرا لتطوير أسلحة نووية، أما الثانى فكان بقيام الإرهابيين بتفجيرات الحادى عشر من سبتمبر وهو ما جعل الكثيرين يتوقفون أمام هذا الأمر ويفكرون أن من لديه القدرة على القيام بمثل هذا العمل المنظم يمكن له أيضا أن يضع يديه على قنبلة تقليدية بها مواد مشعة أو حتى مواد نووية ــ وهذه القنبلة وإن لم تكن قنبلة نووية إلا أن لها قدرة تدميرية وآثارا جانبية لا يستهان بها.

ولقد زاد القلق من سيناريو وضع الإرهابيين أيديهم على مواد نووية عندما تم الكشف عن دلائل تفيد بمحاولة القاعدة الحصول على أسلحة دمار شامل»، حسبما يقول البرادعى فى فصل يخصصه للبازار النووى لعبدالقدير خان.

ويقول البرادعى: «وإن الكابوس الذى يواجهنى هو أن خان الذى يقدم التكنولوجيا والمعلومات بل المواد النووية لمن يدفع، ربما قدم هذه الخدمات لبعض المجموعات المتطرفة فى شمال أفغانستان ــ وهذا الأمر ليس بمجرد السيناريو الأسود غير وارد الحدوث لأن التطور الذى بلغه أداء بعض هذه المجموعات يشير إلى أنه يمكن أن تكون قد حصلت على خدمات خان، أو بعض منها».

ويضيف «تمثلت ردة فعل المجتمع الدولى على هذا الأمر فى اتخاذ سلسلة متصاعدة من الإجراءات المتعلقة بكيفية حماية الدول لمنشآتها النووية وللمواد المشعة التى بحوزتها. وفى خلال شهور ارتفعت ميزانية الوكالة الدولية للطاقة الذرية المخصصة لأغراض الأمان النووى من مليون دولار إلى 30 مليون دولار»، وذلك بالرغم مما يشير إليه من خلاف دولى، خاصة بين الشمال والجنوب، حول استراتيجيات ضمان تحقيق الأمان النووى.

عبدالقدير خان

«ولكن السؤال هو: ما الذى يدفع شخصا مثل عبدالقدير خان ليقوم بما قام به، والإجابة تأتى مما قاله خان نفسه عن ذكريات طفولته فى الهند حيث ذكر أنه شاهد مذبحة للمسلمين على أيدى الغالبية الهندوسية، وبعد فترة ليست بالطويلة غادر خان الهند مهاجرا مع أسرته إلى باكستان حيث استقر هناك منذ عام 1947، عندما تم تقسيم الهند إلى الهند وباكستان. وبعد نحو عقدين وعندما كان خان يدرس فى بلجيكا للحصول على درجة الدكتوراة وقعت باكستان فى قبضة حرب طاحنة مع الهند تعرض خلالها الجيش الباكستانى لهزيمة ساحقة تم معها اقتطاع جزء من شرق باكستان لتصبح بنجلادش. وفى عام 1971 عندما قامت الهند بأولى تفجيراتها النووية كان خان يعمل لدى إحدى الشركات العاملة فى مجال تخصيب اليورانيوم وهى شركة تجمع مساهمين من بريطانيا وألمانيا الغربية وهولندا وتقوم بالأساس بإنتاج أنواع متطورة من أجهزة الطرد المستخدمة لتخصيب اليورانيوم، وهى الشركة التى سرعان ما أصبحت لاعبا مهما فى سوق الوقود النووى»، هكذا يكتب البرادعى فى كتابه «زمن الخداع» عن العالم النووى الباكستانى الذى أثارت أنشطته قلقا دوليا واسعا كونه حول التكنولوجيا والمعدات النووية إلى سلع يبيعها لمن هو مستعد لأن يدفع الثمن المطلوب.

ثم يضيف فى الفصل ذاته: «ولا يمكن لأحد أن يحكم على وجه التحديد من توالى فصول هذه القصة عما إذا كان الدافع وراء تصرفات خان مرتبطا بالانتماءات الوطنية أو الرغبة فى دعم المسلمين الذين رآهم يتعرضون للظلم أو بمجرد الطموحات الشخصية، لكن الأكيد أنه قام بما قام به لسبب أو لآخر، ولم تتمكن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أبدا من استجواب خان حتى تستطيع ان تكوّن تصورًا وراء أهدافه.

لقد عاد خان إلى باكستان وسخرت له الموارد والإمكانات اللازمة التى استطاع على أساسها أن يحقق نقلة كبرى فى قدرات باكستان النووية.

ولقد لجأ خان فى مهمته هذه لاستخدام معلومات وتكنولوجيا استحوذ عليها بطريقة غير قانونية، كما استخدم خان أيضا الموارد التى أتاحتها السوق النووية السوداء والتى بدأت فى التوسع منذ الثمانينيات ــ وإلى جانب تطوير القدرات النووية الباكستانية فإن خان استطاع أن يحقق لنفسه ثروة تقدر بـ400 مليون دولار. واستمر خان فى عمله هذا لمدة سنوات وعندما تم كشف ما يقوم به فإن الشبكة التى كونها كانت قد توسعت وتوغلت بشكل كبير على المستوى الدولى».

ثم يتحدث المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية عن محاولة تعقب أثر أنشطة خان والأشخاص والأطراف والشركات والبلدان المتورطة فيها من خلفيات وانتماءات مختلفة.

لننقذ أنفسنا

ويكتب البرادعى «فى 12 فبراير 2004 نشرت مقالا فى النيويورك تايمز تحت عنوان: «لننقذ أنفسنا من الدمار» أشرت فيه إلى شبكة خان لنشر المواد والتكنولوجيا النووية، مؤكدا أن الأسواق تنفتح أكثر فأكثر أمام هذه الشبكة. وفى المقال نفسه اقترحت مجموعة من الإجراءات لمواجهة الانتشار النووى من بينها تكثيف الرقابة على تصدير المواد والمعدات المشتبه فى استخدامها لأغراض نووية، وتوسيع دائرة انضمام الدول للبروتوكول الإضافى لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية الذى يمنح الوكالة الدولية حقا أوسع فى القيام بأعمال التفتيش وتقصى الحقائق ومنع الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية والتحرك نحو التوقيع على معاهدة كان قد تم اقتراحها فى إطار الجمعية العامة للأمم المتحدة فى عام 1993 لحظر تطوير المواد النووية إلى الدرجة التى يمكن معها استخدامها فى تصنيع أسلحة نووية، وكذلك فرض المزيد من الضمانات على تحرك المواد النووية بالإضافة إلى وضع خارطة طريق لتخلى الدول النووية عن أسلحتها النووية».

وحسبما يضيف البرادعى فى «زمن الخداع» فإن الكثير من الأفكار الواردة فى هذا المقال تم تبنيها من قبل جورج دبليو بوش فى خطاب ألقاه لاحقا حول العمل من أجل اقتراح حزمة من الإجراءات المتعلقة بمجابهة انتشار الأسلحة النووية.

ويقول إنه «فى المجمل فإن مقترحات بوش هدفت لسد الكثير من الثغرات التى استطاعت من خلالها شبكة خان الانهماك فى عمل سرى موسع لنشر الأسلحة النووية بصورة غير قانونية وغير خاضعة للرقابة والمتابعة الدولية».

ويلفت البرادعى إلى تبنى مجلس الأمن لاحقا القرار رقم 1540 الذى يطالب من الدول التعامل بحسم مع الأفراد الذين يسعون بأى طريقة لنشر أسلحة الدمار الشامل، وإلى عمل الأمريكيين بعد هذا الخطاب لمدة عامين لإيجاد الدعم لفكرتها الخاصة بإنشاء جهة خاصة للمتابعة والتحقق «وهى الفكرة التى لم تكن تخلو من وجاهة من حيث المبدأ وإن كان الأمر يتعلق بطرق تطبيقها، وبالفعل تم تشكيل هذه الهيئة ولكن بقاءها كان قصيرا بسبب الخلافات المتوقعة حول العدالة التى تتوخاها، أو غياب هذه العدالة، فيما يتعلق بالدول الغنية فى الشمال والدول الفقيرة فى الجنوب».

الدروس الثلاثة

وبحسب ما يخلص إليه البرادعى فى الفصل المخصص لقصة عبدالقدير خان فإن هناك ثلاثة دروس يجب الاعتبار بها من هذه القصة.

الدرس الأول، يقول البرادعى إنه «يتعلق بالدور الذى لعبته إسرائيل فى الشرق الأوسط والهند فى جنوب آسيا وهو أنه عندما تسعى دولة ما فى منطقة ما للحصول على السلاح النووى فإن ذلك يستتبعه سعى دول أخرى فى نفس المنطقة لامتلاك السلاح النووى».

أما الدرس الثانى الذى يشير إليه فهو أن «محاولة مجابهة انتشار الأسلحة النووية من خلال فرض المزيد من الأحكام على نقل الخبرة النووية هو أمر مهم ولكنه لم يعد كافيا لأن التكنولوجيا النووية أصبحت بالفعل فى يد الكثيرين».

أما الدرس الثالث حسبما يخلص البرادعى فهو أن «استمرار حيازة البعض للأسلحة النووية واعتبار هذه الأسلحة سببا من أسباب القوة والمنعة فإن المزيد من الدول ستستمر فى السعى لأن يكون لها هى أيضا نفس هذه الأسلحة».

----

الشروق تنشر زمن الخداع للبرادعى (5)
وشأنه شأن كل من تولى العمل فى المنظمات الدولية والإقليمية عبر العالم فإن البرادعى لا يجد مفرا من الإقرار من انه كون عمل منظمته «يعتمد على الميزانية التى توفرها الدول الأعضاء» فى الوقت الذى ينبغى على الوكالة ان يخضعوا هذه الدول ذاتها لأعمال التفتيش لتقرر الوكالة مدى التزام هذه الدول بتعاقداتها الدولية من عدمه ــ فى إشارة ربما إلى ان الأمر أحيانا ما يكون معقدا، بل وربما شائكا.


ويضيف البرادعى فى الفصل العاشر من كتابه «زمن الخداع» انه بالرغم من «تفهم الدول، على الاقل من الناحية النظرية، لعمل الوكالة فإن التطبيق قد يكون مختلفا أحيانا، حيث ان مهام التفتيش والتحقق التى تقوم بها احيانا ما تخضع لضغوط الدول التى تبدو عازمة فى دفع الامور فى هذا الاتجاه أو ذاك، وهو الدفع الذى ترفض الوكالة الخضوع له على الرغم مما تتعرض له بسبب ذلك من اتهامات بالانحياز او تجاهل الادلة او تجاوز المسئوليات القانونية لعمل الوكالة».

كوريا الجنوبية والهند وباكستان

ويطرح البرادعى الامثلة على مدى قدرة الدول الاعضاء فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية على إبداء التفهم او عدمه إزاء بعض الحالات بنموذج ما حدث مع كوريا الجنوبية فى عام 2004 عندما وجد مفتشو الوكالة دلائل على نشاطات نووية لم تبلغ سول عنها الوكالة، وهو ما أقرت به سول بالفعل وأرجعته إلى قرارات من قبل بعض العلماء بإجراء تجارب دون اخطار الحكومة التى اتخذت خطوات مباشرة لتصحيح الوضع.

وبحسب ما يطرحه البرادعى فى «زمن الخداع» فإن الولايات المتحدة الامريكية قررت أن ما قامت به كوريا الجنوبية فى هذه الحالة لا يرقى إلى مستوى الخرق لالتزامات سول وقررت عدم إحالة الواقعة إلى مجلس الأمن. بل إن مجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية اكتفى بأن «يأخذ علما» بتقرير أعده البرادعى حول تفاصيل هذه القصة التى يرويها فى صفحات الفصل العاشر من كتابه المعنون بـ«المعايير المزدوجة».

التباين فى التعامل الأمريكى تكرر ثانية، حسبما يروى البرادعى، فى التعامل مع حالتى الهند وباكستان. فى عام 2006، فبالرغم من ان واشنطن أبدت ارتياحا لدعم البرادعى لقرارها التعاون النووى السلمى مع الهند ــ وهو القرار الذى يقول المدير السابق للوكالة الذرية انه اتخذه، رغما عن اتهامات وجهت له بالتماهى مع سياسات إدارة بوش، لأنه كان يرى فيه فتحا لنافذة لعمل الوكالة فى متابعة المنشآت السلمية النووية فى الهند، فإن واشنطن لم تبد نفس القدر من الترحاب بدعمه لتعاون بين باكستان وبلجيكا لتطوير ورفع كفاءة وتأمين مفاعل نووى باكستانى قديم فى كراتشى ــ لاسباب سياسية فيما رآه «تسييسا للأمان النووى».

مصر

«وبالنسبة لمصر ايضا وجد مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى عام 2004 دلائل من المسوحات، وكذلك من الوثائق، على ان العلماء المصريين قاموا باختبارات متنوعة باستخدام مواد نووية دون إخطار الوكالة بذلك. وقد تخاطبت الوكالة فى ذلك مع السلطات المصرية المعنية مشيرة إلى ما لديها من دلائل تفيد بوقوع بعض التجارب وان بعض هذه التجارب يرجع إلى عقد الثمانينيات من القرن الماضى، وفيما بدا بعد ذلك فإن هذه المسوحات والوثائق قد تركت فى مواقعها منذ عقود فى مفاعل انشاص دون أى اهتمام أو متابعة، كما ان اجهزة تبلغ قيمتها ملايين الدولارات قد تركت فى غرف مغلقة لم يفتحها احد منذ عقود» يقول البرادعى، ويضيف أن المصريين كانوا «يودون لو تم تأخير زيارة مفتشى الوكالة بما يسمح لهم بتنظيف هذه الغرف، ولم يكن مدير الوكالة الوطنية للطاقة الذرية على متولى اسلام على على علم بهذا الامر وهو ما وضعه والسلطات المصرية فى موقف محرج»، حيث ان مجلس الوكالة رأى أن هناك علامات استفهام حول الموقف المصرى فى هذا الشأن.

رواية البرادعى حول الحالة المصرية تمتد إلى ما بعد هذا التاريخ بسنوات «عندما أعلن جمال مبارك، ابن رئيس الجمهورية، فى اجتماع للحزب الحاكم أن مصر يجب ان تسعى لتطوير برنامج نووى لاستخدامات الطاقة» وهو الأمر الذى وجد المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية أنه وجد ترحيبا من الإعلام الرسمى المصرى «بصورة تعبر عن الجهل وتدعو للغضب وتوحى بأن الإعلام تم استخدامه لخدمة أغراض جهة ما».

ويستطرد البرادعى: «وفى يناير 2007 التقيت حسن يونس وزير الكهرباء المصرى، فكان أول حديث «رسمى» بينى وبين اى من المسئولين المصريين حول هذا الامر. وكان التساؤل الذى اثرته هو عدم قيام الحكومة المصرية بما هو معتاد فى مثل هذه الحالات من طلب المشورة الفنية من الوكالة الدولية للطاقة الذرية».

رد يونس، حسب الرواية الآتية فى «زمن الخداع» أن «الحكومة المصرية لم تقرر شيئا بعد وانها مازلت تجرى «دراسات» وانها تتشاور مع شركة بكتل المملوكة امريكيا». وهو ما دفع بالبرادعى لأن يلفت نظر محدثه المصرى «أن ما تقوم به مصر ليس بالطريق السليم وأن ما عليها القيام به هو اللجوء للوكالة وليس لأى دولة للحصول على المشورة الفنية واجراء دراسات التقييم المتعلقة بالجوانب الاقتصادية والسلامة والبيئة».

وبعبارات متتالية وواضحة يضيف البرادعى ما ينقل لقارئه إحساس القلق الذى يبدو أنه انتابه: «وكنت حريصا على وجه الخصوص على التأكيد على ما يتعلق بعوامل السلامة، مشيرا فى هذا المجال للعديد من الحوادث المصرية الكبيرة فى مجالات النقل المائى والبرى وكذلك إلى أن مصر ليس لديها من الخبرة ما يدعو للثقة فيما يتعلق بقدرتها لتأمين مفاعل نووى ــ حيث كانت الوكالة قد اخبرت مصر قبل عشرين عاما بينما كانت مصر تفكر فى انشاء مفاعل نووى للاغراض السلمية أن الاجراءات الامنية ضد احتمالات الاشعاع المتبعة فى مصر ليست كافية.

ولقد تعرض مصريون فى عدد من الحالات لإصابات جراء التعرض لاشعاع نووى بصورة غير مبررة ومع ذلك فإن الحكومة المصرية لم تقم بتعديل القوانين المعمول بها تبعا لتوصيات الوكالة، بل ان هذا القانون ترك بدون تعديل حتى عام 2010».

ثم ينقل البرادعى قارئ «زمن الخداع» من مشاعر القلق لمشاعر الغضب المختلط بالأسى الذى يبدو انه قد انتابه وهو يكتب، «وكانت دراسات سابقة للوكالة قد أوضحت أن مصر لديها بالفعل امكانات نووية لم تتم الاستفادة منها بالدرجة الكافية على الاطلاق، وبالتالى فإذا كانت مصر تسعى لتطوير اسباب البحث العلمى وانتاج طاقة كهربائية نووية فإنه ربما عليها ان تنظر اولا فى تعظيم الاستفادة من الامكانات المتاحة لها بالفعل».

ثم يضيف البرادعى أنه وفى لقاء لاحق، خلال اجتماعات دافوس، مع رشيد محمد رشيد، وزير التجارة والصناعة ــ الذى يصفه بأنه «واحد من أكفأ المسئولين المصريين»، أكد نفس وجهة النظر، واشار إلى «أن اهم شىء فيما يتعلق بمسألة الطاقة النووية ليس عنصر السرعة ولكن عنصر الدراسات التى تسبق هذا المشروع بحيث يتم على النحو السليم».

ويضيف البرادعى فيما ينقله عن هذا اللقاء انه أيضا اخبر رشيد «بأن تلك الدراسات يجب ان تشمل النظر فيما لدى مصر من البترول والغاز أولا»، كما انه اكد له «انه حتى إذا ما قررت مصر انها بحاجة لمفاعل نووى لإنتاج الطاقة فإن ذلك الامر سيستغرق عشر سنوات للحصول على البنية التحتية اللازمة».

«ووعد رشيد بنقل وجهة النظر هذه إلى الرئيس وهو ما كان وبالتالى اصبح التناول الاعلامى لهذه القضية فى مصر اكثر اتزانا بما فى ذلك تناول الاعلام الرسمى المصرى»، بحسب البرادعى ــ فى إشارة ربما إلى انه استطاع ان يقنع حسنى مبارك أو ان يقنع رشيد الذى لديه القدرة على اقناع الرئيس المصرى فى حينه.

اللقطة التالية من حديث البرادعى حول مصر تأتى بعد عامين آخرين، فى 2009 عندما «عادت الاتصالات المتوالية بين مصر والوكالة الدولية للطاقة الذرية مع طلب الوكالة لاستيضاح اصل جزيئات من اليورانيوم العالى التخصيب تم الحصول عليها خلال اختبارات بيئية جرت فى مركز انشاص البحثى».

وبحسب البرادعى فإن الرد المصرى كان أن هذه الجزيئات ربما كان مصدرها من احدى العبوات التى تم استيراد معدات بها. غير ان هذا الرد لم يحل دون قيام رئيس العلاقات الخارجية بالوكالة من ان يشير إلى الامر فى تصريحات علنية على اساس ان هذا الشأن سيكون علنيا من خلال تقرير الوكالة، من ناحية، ومن ناحية اخرى فلقد رأى رئيس العلاقات الخارجية بالوكالة أن فى مثل هذا التصريح تأكيدا على إعمال مبدأ الشفافية حتى مع مصر، الدولة الأم للبرادعى، فى وقت كان الاخير فيه يتعرض حسبما يقول «لاتهامات كانت بدأت تتردد فى بعض وسائل الاعلام بأننى لا اتعامل مع مصر بكل مقتضيات الشفافية بالنظر لكونى مصريا».

ولا يخفى البرادعى أسى وهو يروى لقارئ كتابه ردة الفعل المصرى التى بدأت بخطاب رسمى من سفير القاهرة فى فيينا، إيهاب فوزى، يتهم الوكالة الدولية بتسييس متعمد للواقعة بل وللافتقار للمهنية فى التعامل مع الامر أو لسوء النية من قبل المنظمة الدولية، ثم تبع ذلك «التصريح الذى صدر عن المتحدث الرسمى للخارجية المصرية والذى تناقلته وكالات الانباء حيث اشار إلى ان تقرير الوكالة حول جزيئات اليورانيوم الشديد التخصيب مبنى على معلومات «قديمة وخاطئة».

«فى كل الاحوال فإن الخطاب الذى اتى به فوزى أثار غضبى وأخبرته بأن ليس هناك فيما صدر عن الوكالة ما يخالف الحقيقة، مشيرا إلى ان معاملات سابقة مع مصر اوضحت بجلاء انه ليس هناك جهة بعينها فى القاهرة على علم تام بكامل المواد والمعدات النووية التى فى حوزة البلد، مشيرا إلى ان الوكالة بذلت جهدا غير عادى لمساعدة المصريين فى حصر هذه المواد والمعدات، ومطالبا بأن تسحب القاهرة هذا الخطاب. وقلت له انه فى حال ما قررت مصر عدم سحب الخطاب فإننى سأقدمه لمجلس الوكالة مرفقا بتقرير مفصل عن سوء الاداء المصرى خلال التعاملات السابقة»، يقول البرادعى. وهو ما كان حيث قدمت القاهرة بعد ذلك بيومين خطابا مختلفا للوكالة.

وبعيدا عن كواليس ما جرى فى فيينا ودوائر القاهرة حول الشأن المصرى يضع البرادعى الأمر فى سياقه الأوسع ويقول: «والحقيقة ان مصر بالفعل تحتاج لمزيد من الطاقة، خاصة فيما يتعلق بتوليد الكهرباء، ولكن الحقيقة ايضا ان القرار المصرى بإدخال مكون الطاقة النووية ضمن حزمة انواع الطاقة المختلفة المستخدمة فى مصر، ليس ببعيد، فى رأيى، عن مجمل سياق التوتر النووى الذى يسود فى المنطقة».

ثم يضيف دون مواربة «إن التوجس من البرنامج النووى الإيرانى كان له اثره على تفكير دول المنطقة والتى بادر العديد منها لمخاطبة الوكالة الدولية للطاقة النووية، لأنه بالرغم من الضجة التى اثارها هذا الملف فإن أحدا لم يرد ان يتخلف عن حيازة الطاقة النووية ــ هذا بالطبع اضافة إلى ان واحدا من أهم أسباب الاحباط والتشكك فى المنطقة يرتبط باختلال التوازن العسكرى لصالح إسرائيل بسبب ترسانتها النووية».

إسرائيل

وحول إسرائيل يقرر البرادعى أن «الحالة الاسرائيلية حالة متفردة حيث ان اسرائيل، شأنها فى ذلك شأن الهند وباكستان، لها عضوية فى الوكالة ولكنها ليست عضوا فى اتفاقية حظر انتشار الاسلحة النووية هى بالتالى فإن مفتشى الوكالة ليس لديهم الصلاحية لتفحص برنامجها النووى».

ويضيف: «وبالرغم من ذلك فإن دولا فى المنطقة طالبتنى بأن اثير مع اسرائيل امر اخضاع منشآتها النووية لنظام الضمانات الخاص بالوكالة وان اتشاور معها ايضا حول التعاون مع مشروع اخلاء منطقة الشرق الأوسط من الاسلحة النووية».

حديث البرادعى حول الوضعية النووية لاسرائيل جاء مع رئيس وزرائها السابق آرييل شارون فى عام 2004 خلال زيارة قام بها المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رغم تلقيه تهديدا بالقتل حال ما قام بالزيارة وصل إلى البريد الإلكترونى الخاص بزوجته عايدة ولم يتم الكشف عن هوية صاحبه.

ولا يفوت البرادعى ان يلفت نظر قرائه إلى تواضع مكتب شارون وإلى بعده عن الوجاهة التى تميل إليها مكاتب غيره من مسئولى الشرق الاوسط وإلى الصبغة العملية والمحددة التى يتسم بها الحديث مع رئيس الوزراء الاسرائيلى الذى يستمع إلى محدثيه بإصغاء ويحرص أيضا على الاستماع لنصائح مساعديه والاخذ برأيهم.

ثم يقول البرادعى: «تحدثت بصراحة، مشيرا إلى أن الردع النووى لن يخدم على المدى الطويل المصالح الاسرائيلية، وإلى توسع انتشار القدرات النووية وامكانية وصول قدرات تصنيع الأسلحة النووية لجماعات ارهابية وفى هذه الحالة فإن أى ترسانة نووية لن تجدى نفعا».

ويضيف المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية أنه اخبر شارون أيضا بأن «رفض اسرائيل الحديث مع الدول العربية بصراحة عن جعل المنطقة خالية من الاسلحة النووية أو عن وضعية الترسانة النووية الإسرائيلية التى يعرف الجميع بأمرها حتى لو لم تكن اسرائيل تتحدث عنها بصراحة هو امر يدفع لانتشار مشاعر الغضب والاحباط والشعور بالإهانة عبر المنطقة، مشيرا إلى أن هذا الوضع يهدد بفقدان الرأى العام العربى لأى مصداقية فى نظام حظر انتشار الاسلحة النووية الذى لا يتقبل الحديث الاسرائيلى حول ضرورة الاحتفاظ بالترسانة النووية الإسرائيلية طالما ان اسرائيل لم تصل إلى اتفاقية سلام دائم مع جيرانها العرب لأسباب تراها اسرائيل مهددات لأمنها ووجودها، بل ان الشعوب العربية والاسلامية ترى فى ذلك استمرارا لما تقوم به اسرائيل من النيل من الحقوق الفلسطينية».

وبحسب رواية «زمن الخداع»، فإن البرادعى استفاض فقال لشارون «إنه لو قررت ايران ان تتخلى عن اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية فإن هذا القرار سيكون محل ترحيب واسع على الأرجح من الشعوب الاسلامية التى سترى فى حيازة ايران للسلاح النووى انشاء للتوازن مع إسرائيل».

شارون، حسبما يشير البرادعى، «قطع على نفسه التزاما بأن يقوم بالحديث حول جعل منطقة الشرق الاوسط خالية من اسلحة الدمار الشامل وذلك فى إطار السعى لإرساء السلام العربى ــ الاسرائيلى. وكانت هذه هى اول مرة يتحدث فيها مسئول اسرائيلى عن هذا التوجه، لأن المسئولين الاسرائيليين كانوا قد دأبوا على ربط بداية الحديث عن جعل منطقة الشرق الاوسط خالية من اسلحة الدمار الشامل بتحقيق كامل للسلام العربى ــ الاسرائيلى».

ويقول البرادعى إنه فسر «التحول فى الموقف الذى ابداه شارون» على أنه «تعبير عن ادراكه لتزايد واتساع حجم الغضب فى العالم العربى ولخطورة احتمال حصول الجماعات المتطرفة على أسلحة نووية إضافة ــ ربما ــ إلى رغبته فى ان تبدو اسرائيل بمظهر اكثر مرونة إزاء هذا الملف». ثم يضيف «والأهم من ذلك كله فلقد رأيت ان هذا التحول فى الموقف مرتبط بخشية متزايدة على الجانب الاسرائيلى من تطور البرنامج النووى الإيرانى».

ولا ينهى البرادعى حديثه عن هذه الصفحة من الملف الاسرائيلى دون ان يقرر أنه «بالنسبة للعالمين العربى والاسلامى فإن تعامل المجتمع الدولى مع الترسانة النووية الاسرائيلية كان تطبيقا صارخا للمعايير المزدوجة التى تميز بين من يراه المجتمع الدولى دولا جيدة وتلك التى يراها دولا غير سيئة».

ويضيف: «وكنت قد طالبت لفترة بأن يتبنى المجتمع الدولى نهجا جديدا إزاء اسرائيل والهند وباكستان، بوصف ان هذه الدول لم تنضم لاتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، مقترحا ان يكون التعامل معها بوصفهم شركاء نوويين وليسوا دولا خارجة على النظام النووى المقرر، لأن هذه الدول لم تخرق اية اتفاقات بتطويرها للسلاح النووى ولاعتقادى ان اى حديث جاد حول وقف انتشار الأسلحة النووية لا يمكن ان يتم بدون مشاركة الدول النووية فيه، وعلى سبيل المثال فإن التفاوض لجعل الشرق الاوسط منطقة خالية من الاسلحة النووية لا يمكن ان يتم بدون اسرائيل».

سوريا

«إن واحدة من ابرز صور الادعاء وأكثرها تضليلا فى سياق التعامل مع الملفات النووية هى تلك الضربة العسكرية التى قامت بها اسرائيل ضد منشأة دير الزور فى سبتمبر 2007 وما اعقب هذا الهجوم من ادعاءات بأن هذه المنشآت كانت بها نشاطات نووية وهو الامر الذى لم تعلق عليه اسرائيل او امريكا بصورة علنية، بالرغم من تسريبات صحفية امريكية لم تنسب لمسئولين بأعينهم»، يقول البرادعى بكل مباشرة.

ورغم مطالبة البرادعى بأن تقدم الدول الاعضاء اية معلومات قد تكون لديها حول حقيقة البرنامج النووى السورى المزعوم، فإن احدا لم يتقدم بأى معلومات.

وعوضا عن ذلك تم شن حملات اعلامية اسرائيلية وامريكية ضد الرجل، حسبما يروى لقارئه، كونه صرح للإعلام بأنه ليس لديه ما يفيد بأن المنشأة التى تعرضت للقصف العسكرى الاسرائيلية كانت منشأة نووية أم لا، وانه فى كل الاحوال لا يجوز ان تتم مهاجمة دولة ما بادعاء سعيها لامتلاك السلاح النووى ثم السعى لإثبات هذا الادعاء.

ولكن الحملات الاسرائيلية والامريكية التى تعرض لها البرادعى لم تكن هى ما أثار دهشته قدر تخاذل الدول العربية الاعضاء فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن ابداء الرفض لما تعرضت له سوريا بل وتباطؤ سوريا ذاتها فى تقديم دلائل سلامة موقفها وما تبع ذلك من عدم استعجال الولايات المتحدة الامريكية لتقديم سوريا لهذه الدلائل «وهو ما أشار ربما لإجراء حوار سياسى غير معلن عنه بين واشنطن ودمشق».

----

الشروق تنشر زمن الخداع للبرادعى (6)
 إلى مايا، حفيدته ذات الأعوام الثلاثة، يهدى محمد البرادعى، المرشح الرئاسى المصرى والحائز على جائزة نوبل للسلام، كتابه الذى يحكى فيه قصة 12 عاما أمضاها على رأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بحثا عن تقويض انتشار مدمر للسلاح النووى وتخفيض لترسانات نووية قائمة واستخدامات سلمية للطاقة النووية تسهم فى توليد الطاقة وعلاج السرطان ــ أى بحثا عن عالم أفضل يحلم البرادعى أن يسوده الأمن من الدمار والسعى للنماء، عالم يريد أن يتركه لهذه الحفيدة وحفيدات وأحفاد آخرين قد يكونون له يوما، ولأجيال من الأطفال، من بينهم من يعنى به البرادعى بنفسه من خلال كفالة أيتام فى مناطق فقيرة فى القاهرة، وبينهم أطفال فى العراق وإيران وكوريا الشمالية وغيرها يرى البرادعى أنهم يستحقون عالما أفضل.

فى مذكراته عن سنوات ترأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعى يتحدث عن فوزه بجائزة نوبل للسلام وخشيته المستمرة من ان مستوجبات الأمن الانسانى ما زالت غائبة عن عالمنا.

«إن الرغبة الملحة لتحقيق الأمن الإنسانى هى امر لا يختلف عليه اثنان، وهى رغبة يتشارك فيها الأفراد، كما الدول، وان اختلفت الاهداف والوسائل بدرجة كبيرة. فالبعض يبحث عن الامن الغذائى أو الماء او الرعاية الصحية او الامان من العوز او حتى حقوق الإنسان الرئيسية مثل حرية التعبير وحرية العبادة والحرية من الخوف»، هكذا يكتب المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعى فى الفقرة الاولى من خاتمة كتابه «زمن الخداع».

ولا تختلف هذه الفكرة كثيرا عن قلب الرسالة التى وجهها البرادعى للعالم فى لحظة حصوله على جائزة نوبل للسلام فى عام 2005 حيث قال «إن زوجة اخى تعمل مع جمعية خيرية تعنى بالايتام فى القاهرة، حيث تقوم مع زملاء لها بتوفير العناية لاطفال تركوا لمواجهة مقدراتهم بينما ليست لديهم الحيلة للتعامل مع هذه المقدرات، ويقوم عمل هذه الجمعية على مد هؤلاء الاطفال بالغذاء والملبس وتعليمهم القراءة. فى الوقت نفسه أقوم مع زملائى فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالعمل من اجل ابعاد المواد النووية عن حوزة المجموعات المتطرفة، فنحن نقوم بإجراءات لتفقد المنشآت النووية حول العالم للتأكد من ان البرامج النووية السلمية لا تستخدم كغطاء لبرامج للتسحل النووى. وبهذا فإننى مثل زوجة اخى، لنا هدف واحد نسعى لتحقيقه عبر طرق مختلفة وهو أمن المجتمع الإنسانى».

بالنسبة للبرادعى فإن جائزة نوبل للسلام التى حصل عليها مناصفة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية كانت على وجه التحديد دعما لإيمانه بعدالة قضية يقول انه آمن بها ودعا إليها ودافع عنها منذ أن كان طالبا للقانون الدولى بنيويورك. لكن الجائزة أيضا، حسبما يدعو البرادعى قارئ «زمن الخداع» للاعتقاد، كانت حافزا له فى عمله خلال المدة الثالثة على رأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهى المدة التى يقول البرادعى إنه سعى لها فى وجه معارضة أمريكية وبالرغم من اتجاه نيته فى الأساس للاكتفاء بمدتين.

المدة الثالثة

وفى البداية يقول البرادعى إن البعض كان قد ألمح له أن الولايات المتحدة الأمريكية تبدو عازمة على دعمه للترشح لفترة ثالثة وهو الدعم الذى قال البعض للبرادعى انه سيتلقاه بابلاغ مباشر من كولن باول وزير الخارجية الامريكى فى اتصال يأتيه لمنزله الصيفى بالإسكندرية، حيث كان يقضى إجازة عائلية.

«ولم أكن مندهشا من هذا الموقف الامريكى لانه خلال الشهور الماضية كانت هناك سلسلة من الاجتماعات الايجابية مع عدد من المسئولين الأمريكيين بما فى ذلك بوش نفسه»، يقول البرادعى.

ولكن باول لم يتصل، ولدى عودته لفيينا علم البرادعى أن الموقف الأمريكى قد تغير «بناء على حملة شنها» ضده جون بولتون، وهو من أبرز اسماء اليمين الأمريكى المتشدد والذى لا يهتم كثيرا بالدبلوماسية متعددة الاطراف ويصر على ان الولايات المتحدة الامريكية يمكن لها ان تقرر ما تشاء وتفعل ما تشاء بناء على مصالح أمنها القومى.

«وكان بولتون يستند فى موقفه هذا إلى أن أى رئيس لأى منظمة تتبع الامم المتحدة لا ينبغى عليه ان يحتفظ بمنصبه لأكثر من مدتين ــ وانا كنت اعلم ان هذه القاعدة لا تطبق دوما. ولقد بعث لى بولتون برسالة مفادها إننى إذا قبلت بانهاء مهمتى بعد المدة الثانية وعدم السعى لمدة ثالثة فإن الولايات المتحدة الامريكية ستصدر بيانا تعرب فيه عن تقديرها للعمل الذى قمت به خلال الثمانية اعوام التى ترأست فيها الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، حسبما يقول البرادعى، الذى يضيف «ولقد أثار هذا الأمر غضبى بشدة لأن بولتون كان يمثل كل شىء لا أتفق معه.. ولقد أثار حنقى أن يتصور بولتون إذا ما كان سيقرر عنى إذا ما كنت أترشح لمدة ثالثة أم لا».

ثم يقول البرادعى «وفى ذلك المساء جلست إلى زوجتى عايدة وتشاورنا قليلاُ فى الامر ثم قررنا اننى سأترشح لمدة ثالثة ــ فإذا ما كان لى ان افوز فإن ذلك سيكون بمثابة رسالة واضحة حول الدعم الدولى للدبلوماسية متعددة الاطراف وسيتيح لى ذلك ايضا الفرصة للسعى نحو حل يقوم على التشاور حول الملف الإيرانى، وإذا لم افز فإن ذلك سيكون على كل حال دليلا على اننى لم اخضع للضغوط الصفيقة التى كانت أمريكا تتجه نحو ممارستها.. وفى صباح اليوم التالى كتبت رسالة لمدير مجلس المحافظين معلنا ترشحى لفترة ثالثة».

«ولقد بدأت العاصفة مباشرة بمجرد تقدمى بهذا الخطاب» يقول البرادعى فى الفصل الثامن من كتابه المعنون من «فيينا إلى أوسلو»، مستعرضا سلسلة من الخطوات والاتصالات المتتالية التى قامت بها واشنطن لتلوح برفضها فى وجه المدير السابق للوكالة الذرية ــ بما فى ذلك سعيها للبحث عن منافسين محتملين على منصب مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية ــ وشارحا كيف تحرك للرد الحاسم على كل خطوة من هذه الخطوات.

«فى النهاية كان الأمريكيون هم وحدهم من يعارض ترشيحى، بل ان الدول التى عادة ما تصوت مع الولايات المتحدة الامريكية وتتبع مواقفها وهى استراليا وكندا واليابان وبريطانيا لم تتدخل كثيرا فى الجدل الدائر وبعثوا لى برسائل مفادها انهم يساندوننى»، بحسب رواية «زمن الخداع».

ثم جاء لقاء للبرادعى مع كوندوليزا رايس التى كانت قد تولت منصب وزيرة الخارجية خلفا لمنصبها مستشارة الأمن القومى ليدور الحديث حول إيران ثم ليتطرق فى نهايته لمسألة اعادة البرادعى للترشح لفترة ثالثة.

ويقول البرادعى «اخبرتنى رايس ان موقف الولايات المتحدة الامريكية إزائى لا يتعلق بشخصى وانما يتعلق بموقف واشنطن فى عدم حصول أى شخص لمنصب قيادى لأى من منظمات الأمم المتحدة.. لقد كنت اعلم ان هذا غير حقيقى، وكانت رايس تعلم اننى اعلم ذلك ــ غير أننى تصورت أنه ربما كانت رايس تحاول مع هادلى إعفاء أنفسهما من المهازل الدبلوماسية التى يتورط فيها جون بولتون، الذى علمت أن بوش شخصيا قام بتعيينه مندوبا دائما فى الأمم المتحدة على الرغم من عدم ايمان بولتون نفسه بجدوى الأمم المتحدة ودور الدبلوماسية متعددة الأطراف وعلى الرغم من أن رايس نفسها كانت تود خروجه من الخارجية الأمريكية لدى توليها لمهام منصبها الجديد».

«وقد بدا لى وقتها أن الولايات المتحدة الأمريكية بصدد التخلى عن موقفها إزاء ترشيحى» حسبما يضيف صاحب «زمن الخداع»، وبالفعل فى 13 يونيو 2005 تمت إعادة انتخابه لمدة ثالثة بإجماع الاصوات.

لقد مثل هذا الاجماع بالنسبة للبرادعى تقديرا مهما ليس لشخصه وعمله فقط ولكن لدور الوكالة الدولية للطاقة الذرية وللعمل الصعب الذى كانت تقوم به فى التعامل مع ملفات شائكة فى ظل ظروف سياسية معقدة وغياب واضح لتوازن القوة الدولية.

ولكن التقدير التالى للبرادعى والوكالة كان اكثر تأثيرا، ولم يأت هذا التقدير من مقر الوكالة فى فيينا ولكن من أوسلو العاصمة النرويجية التى تمنح منها جوائز نوبل.. وكان ذلك بعد أشهر قليلة من إعادة انتخاب البرادعى لمدة ثالثة على رأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

نوبل

«وفى السابع من اكتوبر 2005 كنت فى منزلى مرتديا ثياب النوم حتى ساعة متأخرة، وكنت اتابع أنباء تتناثر هنا وهناك حول ترشيح الوكالة ومديرها العام، للسنة الثانية على التوالى، لجائزة نوبل للسلام» حسبما يتذكر البرادعى.

وبلغة لا يملك القارئ أمامها سوى التأثر للحظات الإنسانية التى مر بها صاحب تجارب التفتيش فى العراق وكوريا الشمالية واللقاءات مع جورج دبليو بوش وآرييل شارون يقول البرادعى إنه عندما لم يتلق اتصالا من لجنة الجائزة قبل نصف ساعة من اعلان اسم الفائز بها ــ حسب التقليد المتبع ــ شعر بأسى ذكره بإحباط العام السابق عندما ارتفع سقف التوقعات بفوزه بالجائزة دون ان تكون من نصيبه.

«وبينما كنت فى حالة من التوتر، قررت أن الجائزة ستذهب لشخص اخر، والتحقت بزوجتى لمتابعة حفل الاعلان وكلى فضول لأعرف من الذى حصل على نوبل للسلام عن عام 2005»، ليضيف فورا «وعندما جاء الاعلان باللغة النرويجية مشيرا إلى اسم الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو الاسم الذى استطعت ان افهمه بالطبع، رغم عدم معرفتى باللغة النرويجية، وبعد ذلك ذكر اسمى نظرت لزوجتى عايدة وانهمرت الدموع من اعيننا».

وبعد ان انهمرت الدموع، انهمرت التهانى والورود والكلمات الرقيقة ولحظات الاحتفاء ومراسم الاحتفال.

الاحتفاء

البرادعى الذى كان قد آثر ان يمضى صبيحة الاعلان عن الجائزة فى المنزل خشية التعرض للتكهنات الاعلامية توجه فورا لمقر الوكالة ليقابل بعاصفة من التصفيق والسعادة من كل العاملين فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية التى اشتركت مع البرادعى فى الجائزة.

«ولا يمكن لى ابدا ان اصف مدى السعادة الغامرة التى شعرت بها وزملائى العاملون معى فى الوكالة والذين ينتمون لأكثر من 90 دولة والذين بذلوا الكثير من الجهد من خلال الوكالة لجعل العالم الذى نعيش فيه اكثر أمنا»، يقول البرادعى بتأثر يبدو انه لم يغادره رغم ان الرواية جاءت بعد ست سنوات من الفوز بالجائزة.

ثم يضيف فى استرجاع حى للقطات صغيرة وتفاصيل دقيقة «وتوالت رسائل التأييد والتهنئة سواء عبر الإيميل او بالبريد العادى للدرجة التى كان بريد الالكترونى لا يستوعبها وإلى الحد الذى اضطر العاملون فى ادارة البريد بالوكالة لتوزيع هذه الخطابات فى حقائب بلاستيكية كبيرة كتلك التى تستخدم للتسوق فى السوبر ماركت.

لقد كانت الرسائل تأتى من اناس واشخاص مختلفين ــ الكثير منهم اشخاص عاديون من هنا ومن هناك، ابناء قوميات واعراق مختلفة، واتباع أديان مختلفة، مدرسون فى مدارس اطفال من إسبانيا يبعثون بـ300 رسالة يعبر كل منهم فيها عن التهانى وراهبات يدعون بالصلاة لمستقبل افضل وأكثر أمنا ومواطنون مصريون يعربون عن لحظات فخر وسعادة».

أوسلو

ويقول البرادعى «لا يمكن لى ابدا أن اصف يوم تسلم الجائزة فى أوسلو لأن كلمات فى مثل يوم هذا لا ينسى وما إلى ذلك لا تصف كفاية تلك اللحظات».

ويأخذ البرادعى قارئ «زمن الخداع» فى جولة فى أجواء احتفالات أوسلو السابقة على التسلم الرسمى للجائزة ليصل بهم إلى متحف نوبل للسلام حيث تعرف على تاريخ كل هؤلاء الذين حصلوا على الجائزة قبله.

«وعندما طلب منى أن اكتب بعض الكلمات فى كتاب يدون فيه كل من حصل على الجائزة، كنت متوترا بينما خطت يداى كلمات «علينا ان نغير الذهنية التى تحكمنا»، واضفت «نحن بحاجة لأن نفهم المبادئ التى تجمعنا ولأن نقدر أن الحروب لا تفرض حلولا لخلافات أو تؤدى بنا للسير على طريق السلام. إن السبيل الوحدى للمضى قدما كأسرة انسانية واحدة لا يتحقق إلا من خلال الحوار والاحترام» ولكننى من شدة توترى اخطأت فى هجاء احدى الكلمات وهو الامر الذى لا تتوقف زوجتى عن التندر معى حوله حتى يومنا هذا».

ويستفيض البرادعى فى ذكريات أيام اوسلو الثالث والتى يقول عنها انها «كانت أياما للعائلة بامتياز» حيث كانت اسرته كلها برفقته وكذلك اصدقاء مقربون وزملاء عملوا معه لسنوات طويلة.

وفى واحدة من اكثرة الفقرات تأثيرا من كل كتاب «زمن الخداع» تلك الفقرة الوحيدة التى يتحدث فيها عن والدته التى يقول انه كانت بالنسبة له، خلال احتفالات اوسلو «مبعث ابتسام وسرور».

ويقول البرادعى ان قصة جائزة نوبل للسلام بكاملها جعلت من والدته «نجمة وهى فى الثمانين من عمرها حيث توالت قنوات التليفزيون للقائها فى منزلها بالقاهرة عند اعلان الجائزة وكانت تدلى بالحديث تلو الاخر، تتحدث عنى وعن طفولتى والدموع تترقرق فى عينيها. وفى اوسلو كانت تتحرك بنشاط وبخفة تنتقل من احتفال إلى آخر.. وفى احدى الامسيات بينما كنا ننتقل من مكان إلى آخر بسيارة الليموزين ونحن محاطون بركب من الشرطة وجدتها فجأة تقول: إن هذا يبدو كالحلم.. إننى اشعر كما لو كنت ملكة».

البرادعى يخاطب العالم

لتأتى اللحظة التى يقول فيها البرادعى للعالم من أوسلو «ان السعى لهذا الامن هو الهدف الذى تتضافر من اجله الكثير من الجهود، ولكن لأن الاولويات الاجتماعية اصبحت ملتبسة فإن هناك من الدول من ينفق اكثر من تريليون دولار سنويا حول التسلح بينما يعيش اكثر من ثلثى سكان العالم على أقل من دولارين فى اليوم الوحد بينما لا يحصل بليون انسان على عشاء كل ليلة. إن اسباب عدم الامان فى عالم اليوم تتفاقم ولا يمكن، كما اضفت، أن تترك على ما هى عليه.. إن العولمة اصبحت تسقط الحواجز التى تفصل بين البشر والمجتمعات، ومع العولمة فإن اسباب عدم الامان لدى البعض ستتحول لأسباب غياب الأمن للجميع ما لم نتحرك لمعالجتها.. دعونا نتخيل كيف سيكون حال العالم لو ان دولة خصصت لاغراض التنمية نفس الميزانية التى تخصصها لاغراض التسلح، ولو اننا نعيش فى عالم يتمتع فيه كل انسان بالحرية والكرامة. تخيلوا لو اننا نعيش فى عالم يشارك نفس القدر من الألم لوفاة طفل فى دارفور او فانكوفر. تخيلوا لو أننا نعيش فى عالم تتم فيه تسوية الخلافات والمشاكل بالحوار والاساليب الدبلوماسية وليس بالقنابل واطلاق الرصاص. تخيلوا لو أن العالم تخلى عن الأسلحة النووية فلم يبق منها إلا آثار تعرض فى المتاحف. أى عالم سيكون هذا الذى يمكننا ان نجلعه حقيقة واقعة نتركها لأبنائنا».

إنه العالم الأكثر أمنا، أو على ربما الاقل خطورة وتمييزا الذى يصر البرادعى فى خاتمة كتابه أن عليه ان يعترف بأن التباين فى ميزان القوى والقدرات النووية لن يجديه نفعا وان اعتماد البعض فيه على الردع النووى لن يزيده إلا خطورة وان الفقر فيه هو سلام من أسلحة الدمار الشامل شأنه شأن الأسلحة النووية.

إنه العالم الذى يصر البرادعى على ان ادراك حجم المشكلات الهائلة الذى تواجهه لا ينبغى ان يقطع به السبل نحو التفاؤل لان «التفاؤل هو صرخة امل فى طريق السعى نحو الثقة واليقين، ولاننا نعيش فى عالم واحد تسقط فيه الحواجز فإننا بالفعل ابناء عائلة انسانية واحدة ــ حتى لو كره البعض منا ذلك ــ ولا امل امامنا لتحقيق الامن الانسانى إلا بالسعى جماعة نحو تحقيق الامن الانسانى للجميع».

انه العالم الذى يريد البرادعى ان يتركه لمايا، حفيدته ذات الثلاثة أعوام، وعايدة، حفيدته الثانية التى أنجبتها ابنته ليلى، ولم تكمل من العمر أسبوعين بعد.

----

الشروق تقدم عرضًا لكتاب زمن الخداع للبرادعى (1)
http://www.shorouknews.com/ContentData.aspx?id=449874
الشروق تقدم عرضًا لكتاب زمن الخداع للبرادعى (2)
http://www.shorouknews.com/ContentData.aspx?id=450434
الشروق تعرض كتاب زمن الخداع للبرادعى (3)
http://www.shorouknews.com/ContentData.aspx?id=451806
الشروق تنشر زمن الخداع للبرادعى (4)
http://www.shorouknews.com/ContentData.aspx?id=452722
الشروق تنشر زمن الخداع للبرادعى (5)
http://www.shorouknews.com/contentdata.aspx?id=453418
الشروق تنشر زمن الخداع للبرادعى (6)
http://www.shorouknews.com/ContentData.aspx?id=454200

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق